سعيد بوحجة رفيق بوتفليقة الذي وضع العصي في عجلاته

الإطاحة برئيس الغرفة البرلمانية الأولى يصفها البعض بأنها "غير قانونية" لأنه لا يحق لبرلمانيين، حتى لو كانوا أغلبية، تنحية رئيسهم تحت أي ظرف.
الخميس 2018/11/01
الرجل الثالث في الجزائر الذي تجرفه رياح الصراعات

تنقل أخبار  الأزمة الجزائرية المزمنة أن مراد مدلسي، رئيس المجلس الدستوري أي المحكمة الدستورية الجزائرية، رفض أخيرا التدخل في الإشكال الكبير الذي شهده البرلمان، إثر عزل رئيسه سعيد بوحجة من طرف نواب الأغلبية. ويقول الأخير إن "مسؤولا كبيرا طلب منه عدم نقل النزاع إلى القضاء"، بينما يؤكد مدلسي قبل يومين أنه "لا يمكن للمجلس الدستوري التدخل في شأن ما، إلا بتطبيق حرفي للدستور".

الإطاحة ببوحجة من رئاسة الغرفة البرلمانية الأولى، يصفها البعض بأنها "غير قانونية" لأنه لا يحق لبرلمانيين، حتى لو كانوا أغلبية، تنحية رئيسهم تحت أي ظرف، إلا إذا ثبت أنه عاجز بدنيا عن أداء العمل التشريعي، أو أنه يمارس وظيفة أخرى في الوقت نفسه. ويمنح القانون للمعني حق الاستقالة، أما "سحب الثقة" لتثبيت شغور منصب رئيس البرلمان فهو غير قانوني.

وقد تمت الإطاحة ببوحجة مؤخرا، رغم أنه حتى اليوم، يقول إنه لا "يزال الرئيس الشرعي"، ويصف من عزلوه بأنهم "قطاع طرق".

 بوحجة ظل في صلب العلبة السياسية، إلى أن دارت عليه دائرة المصالح وجماعات الضغط، وطالبت برأسه، وهو يشغل منصب الرجل الثالث في الدولة. هو واحد من الحرس القديم في السلطة والحزب الحاكم بالجزائر، ومن الذين مسكوا بخيوط اللعبة حتى وهم في سن متقدمة.

غير أن الرجل لا يزال ثابتا وصامدا في مواقعه وبين أنصاره، يعتمد على سند مبهم كما يستند خصومه على سند مبهم أيضا، ومستعد للذهاب إلى أبعد الحدود في عناده، حتى ولو أدى ذلك إلى سابقة أولى من نوعها برلمان برأسين.

حرب بالوكالة

يعتبر رئيس البرلمان الجزائري المخلوع، من الكوادر الحزبية والرسمية المخضرمة، التي عايشت مختلف الحقب السلطوية في الجزائر، ولم يشفع له تاريخه النضالي ولا رصيده الرسمي، أن يفلت من مخطط الإطاحة به، الذي باشرته القوى السياسية الموالية للسلطة، وعلى رأسها الحزب الذي ينتمي إليه وهو جبهة التحرير الوطني الحاكم.

ولأن تقاليد توزيع مناصب الحكم في الجزائر تحتكم إلى الأبعاد الجهوية، فقد وقع الاختيار على الرجل بعد الانتخابات التشريعية التي جرت في ماي 2017، ليكون رئيسا للمجلس الشعبي الوطني، باعتباره منتخبا ينحدر من محافظة سكيكدة بشرق البلاد، وذلك بمباركة من الرئيس بوتفليقة نفسه، ومن الأحزاب السياسية التي انقلبت عليه الآن.

ورغم الإجماع القائم في الجزائر على أن أزمة البرلمان، هي حرب بالوكالة بين الأجنحة المتصارعة على السلطة، وعلى الرئيس القادم للبلاد بعد ستة أشهر من الآن، لا سيما بعد ترشيح الرئيس بوتفليقة لولاية خامسة، إلا أن الغموض لا يزال يكتنف المشهد، ولا أحد من المراقبين أو المتابعين، بإمكانه المسك بخيوط اللعبة الجارية، فكما يستند المناوئون على مركز نفوذ قوي يريد الإطاحة به من منصبه، فهو الآخر ثبت استناده على مركز مماثل، وإلا لما استطاع الصمود طيلة أسابيع الأزمة الثلاثة.

بوحجة تهمته العجز

بوحجة لا يزال ثابتا وصامدا في مواقعه وبين أنصاره، يعتمد على سند مبهم كما يستند خصومه على سند مبهم.
بوحجة لا يزال ثابتا وصامدا في مواقعه وبين أنصاره، يعتمد على سند مبهم كما يستند خصومه على سند مبهم

ولأن صراع الرئاسة والعسكر، مشجب تعلق عليه كل المعارك الداخلية، فإن بعض المحللين ذهب إلى قراءة الأزمة القائمة بين الجناحين، بامتداد التجاذب بين محيط الرئيس بوتفليقة، وعلى رأسه شقيقه ومستشاره الشخصي سعيد بوتفليقة، وبين قائد أركان المؤسسة العسكرية الجنرال قايد صالح، بسبب الخلاف الذي  دار بينهما على هوية الرئيس المقبل للبلاد، إلا أن التناغم اللافت بين الطرفين في بعض الأحيان، يزيد الوضع لبسا، ويقلص حظوظ هذه الفرضية.

وهو ما يزيد من التشويش على الصورة، ويبقي الاستفهام مطروحا حول دلالات وأبعاد الأزمة، وحول مصدر قوة الخصوم وسعيد بوحجة على حد سواء، في ظل ذهاب البعض الآخر إلى الجزم بافتعال الأزمة من أجل الوصول إلى أزمة دستورية معقدة، تمهد الطريق لأجندة قادمة تطبخ على نار هادئة، ولا يستبعد في هذه الحالة أن تكون جهة واحدة، توحي للخصوم بإسقاط رئيس البرلمان، وتقوم بنفس الشيء مع سعيد بوحجة، للصمود والتمسك بمنصبه.

ومهما كانت خلفيات وأهداف الصراع، فإنه يشهد للرجل إدارته للأزمة بدهاء ورزانة كبيرتين، فقابل دخول وزارتي الخارجية والداخلية اللتين ألغتا مواعيد دبلوماسية للبرلمان، وقلصت له الحماية الأمنية، بالقيام بجولات جوارية في الشوارع والمقاهي المحاذية لمبنى البرلمان، والتقاط صور السيلفي مع المواطنين، لإبلاغ خصومه رسالة القاعدة الشعبية، وعدم خشيته على نفسه من الشارع، عكس النواب والمسؤولين الحكوميين الذين يستعملون دوريات الأمن لحماية أنفسهم من شعبهم خلال تحركاتهم.

كما ظل يتصرف بمنطق رجل الدولة الذي يتصرف بحكمة، ولا ينزل إلى الصراعات السفلية، بعدما أقدموا على غلق البوابة الرئيسية للمبنى بالسلاسل والأقفال الحديدية، وهو المشهد الذي وظفه لكسب تعاطف ودعم الشارع، لا سيما بعد السخط والاستنكار اللذين عبر عنهما مواطنون عاديون لما قام به خصومه.

بوحجة يظهر بصورة رجل الدولة الذي يتصرف بحكمة، ولا ينزل إلى الصراعات السفلية، حتى بعدما أقدموا على غلق البوابة الرئيسية لمبنى البرلمان بالسلاسل والأقفال الحديدية، وهو المشهد الذي وظفه لكسب تعاطف ودعم الشارع، لا سيما بعد السخط والاستنكار اللذين عبر عنهما مواطنون عاديون لما قام به خصومه

وحتى قرار نزع الغطاء السياسي عنه من طرف قيادة حزب جبهة التحرير الوطني، وإحالته على لجنة الانضباط بدعوى التمرد على توجيهات الحزب، قابله ببرودة أعصاب، ودعا جمال ولد عباس، إلى احترام تشريعات وقوانين الحزب، وبقي يعتبر القرار لاغيا وغير شرعي، كما هو الشأن بالنسبة لقرار سحب الثقة، وما تبعه من إعلان الشغور والتوجه إلى انتخاب رئيس جديد للهيئة.

هشاشة الذرائع التي رفعتها أحزاب الموالاة ضده، هي التي منحته هامشا مريحا للمناورة، باعتبار قرار سحب ثقة يتنافى مع تشريعات البرلمان ومع الدستور، وإعلان الشغور بسبب العجز عار عن الصحة تماما، لأن الرجل كما يذكر بعض نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي “يرتشف القهوة في المقاهي ويمشي في الأسواق ويلتقط السيلفي مع الناس، فأين الطبيب الذي يثبت عجزه؟".

وتساءل أحدهم  من الأولى بالعجز، رئيس جمهورية لم يكلم شعبه منذ ست سنوات، ونادرا ما يظهر أمام شاشة التلفزيون الحكومي، أم رئيس برلمان يسير تسعة كليومترات على قدميه؟ وهي الوضعية التي فاقمت حنق الخصوم، بعد تدهور سمعتهم أمام الرأي العام، ووجدوا صعوبة كبيرة في تسويق قرار التنحية، ولذلك شددوا على إسقاطه بشتى الوسائل، حتى ولو كانت بخرق تشريعات ودستور البلاد.

ولأن الرجل رمى بمستقبله وراء ظهره، بعدما بلغ من العمر عتيا، فقد صار لا يكترث بما يجري في مؤسسته، ولما كان خصومه بصدد تزكية خليفته في مبنى البرلمان بعد ثلاثة أسابيع من الشد والجذب، كان بوحجة، يرتشف فنجان قهوة رفقة صديق له في أحد مقاهي حي سيدي يحيى الراقي في أعالي العاصمة.

ولكن قبل ذلك كان قد فجر قنبلة سياسية، لما صرح في نفس اليوم لصحيفة محلية ناطقة بالفرنسية، بأن "التجربة أثبتت عدم جدوى التوجه إلى القضاء في مثل هذه الحالات"، حين سئل عن إمكانية استنجاده بالجهاز القضائي لإنصاف شرعيته وإعادة الوضع في البرلمان إلى سابق عهده، وهو التصريح الصادم الذي يقدم شهادة حية من رجل دولة لا يزال في منصبه، عن عدم استقلالية القضاء وتوظيفه في خدمة جماعات الضغط، وعن مصير المواطن العادي في ظل هذا الاختلال الخطير.

بانتظار اتصال لا يأتي

تقاليد الصراع السياسي في الجزائر تحتم انصراف الجناح المنهزم وتفضيل مصلحة البلاد. لكن أزمة البرلمان اليوم تشكل سابقة.
تقاليد الصراع السياسي في الجزائر تحتم انصراف الجناح المنهزم وتفضيل مصلحة البلاد. لكن أزمة البرلمان اليوم تشكل سابقة

لم ييأس بوحجة من قرار أو رنة هاتف من طرف رئيس البلاد لإنصافه، حماية للشرعية الدستورية وللشرعية الثورية لأن الرجلين يشتركان في ماضيهما الثوري، لأنه يدرك تمام الإدراك بأن اللعبة السياسية هي التي تحسم الصراع ولا شيء غيرها.

ويبقى المتابعون لأزمة البرلمان الجزائري، يتساءلون إذا كان انتخاب خليفة الرئيس المخلوع، سيطوي الصفحة أم سيفتح صفحة جديدة، وعن مصير هذا البرلمان السائر إلى حتفه قبل انقضاء عهدته، في ظل تمسك سعيد بوحجة بمنصبه وشرعيته، ووصفه للخصوم بـ"العصابة" الخارقة للقانون والدستور، ولو أنه يبقي نصف الجملة الآخر مبهما، لأن العصابة المفترضة لم تتحرك ضده بمحض إرادتها، وهناك في هرم السلطة من يدعمها ويؤمن لها الحماية.

ورغم أنه يعاب عليه عدم الاستماتة في الدفاع عن موقفه وتصعيد خطابه، حيث يقاطع مكتبه ومبنى البرلمان، منذ قيام المناوئين له بغلق البوابة الرئيسية بالسلاسل والأقفال الحديدية، والاستحواذ على الطابق الخامس الذي يضم مكتبه وموظفيه، إلا أن رزانة الرجل في حفظ ما يمكن حفظه من ماء وجه البلاد أمام الرأي العام المحلي والدولي، تشفع له عدم اللجوء إلى التصعيد أو تأليب أنصاره، ويكتفي بوضع العصا في العجلة لتكون شوكة في حلق خصومه.

سياسة سحب البساط

صراع الرئاسة والعسكر مشجب تعلق عليه كل المعارك الداخلية، حتى أن بعض المحللين ذهب لقراءة الأزمة القائمة بين الجناحين، بامتداد التجاذب بين محيط الرئيس بوتفليقة.
صراع الرئاسة والعسكر مشجب تعلق عليه كل المعارك الداخلية، حتى أن بعض المحللين ذهب لقراءة الأزمة القائمة بين الجناحين، بامتداد التجاذب بين محيط الرئيس بوتفليقة

وفيما دأبت تقاليد الصراع السياسي في الجزائر، على انصراف الجناح المنهزم بسبب ثقافة الدولة السائدة وتفضيل الانسحاب لمصلحة البلاد، فإن أزمة البرلمان الحالية، تشكل سابقة أولى منذ الاستقلال الوطني في 1962، فلأول مرة ينتهي الاستقطاب إلى هذا النوع من الحصائل، رأسين في هرم مؤسسة واحدة، رغم انتمائهما إلى نفس الحزب السياسي، ورغم أن الذي زكى الأول وهلل له، هو الذي انقلب عليه وجاء بخليفة له.

ويبقى بوحجة، الذي ظل وفيا لحزبه منذ حقبة الأحادية إلى غاية التعددية، وقضى سنوات عمره بين مكاتبه وهيئاته إلى أن اعتلى كرسيه في مايو من العام الماضي، يحمل في جعبته الكثير من الأسرار والألغاز لا سيما تلك التي أحاطت بالحراك، والتي وصلت إلى حد فرض شرعية الأمر الواقع على حساب الشرعية الدستورية، بحسب تصريح رئيس الوزراء أحمد أويحيى، في ندوة صحافية.

وتبقى سفريات بوحجة إلى باريس في الأسابيع التي سبقت الأزمة، إحدى الزوايا الرمادية في مضلع الحراك، ولا تستبعد مصادر مطلعة، انخراطه في مساعي ترتيب أوراق مرشح السلطة في الانتخابات الرئاسية لصالح جناح كان يريد إقناع أحد أبناء النظام السابقين، وهو رئيس الحكومة السابق مولود حمروش، ليكون خليفة لبوتفليقة في أفريل القادم.

ورغم نفي الرجل للمسألة ولأي لقاء له مع حمروش، إلا أن أحزاب السلطة استشعرت خطر سحب البساط من تحتها ورفعت شماعة الوفاء لبوتفليقة، من أجل تمرير مشروعها الانقلابي، وسارعت بكل الوسائل إلى تنفيذ خطوات استباقية لقطع الطريق على أي محاولة تستهدف مصالحها عبر إزاحة بوتفليقة في الاستحقاق الرئاسي المقبل.

ومع ذلك لا يكف سعيد بوحجة عن دعوة جميع الأطراف إلى تحمل مسؤولياتها في الأزمة والإفرازات الناجمة عنها، باعتبارها تمهد الطريق لحالة من الفوضى والانفلات السياسي، ولم يستبعد أن تمتد عدوى سلوك النواب المعارضين له، إلى مؤسسات ومجالس منتخبة أخرى، في ظل الحماية الغريبة لسياسة الأمر الواقع المفروضة من طرف العصب المتمردة.

12