المكان والزمان في السينما

لم تعد للمكان أهمية قصوى كما كانت في السابق، في التعبير الأدبي والفني إذا ما اقتنعنا بأن المبدع يخلق واقعا خاصا لعمله الفني، وهو واقع افتراضي.
صحيح أنه يستند على خبرته ومعايشته الخاصة للمكان.. للمدينة.. للمحيط الذي خبره وخبر أهله وناسه وعايشه وعاش فيه، وربما يكتب منه أيضا، إلاّ أنه هذا الواقع يظل -أولا وأخيرا- واقعا فنيا موازيا للواقع الموضوعي على الأرض.
لا يقاس العمل الفني بمدى نجاحه في مطابقة الواقع، بل بقدرته على إعادة خلقه في صور خيالية أو متخيلة من قلب هذا الواقع والتعبير عن الواقع بصدق، بحيث يكون مقنعا. لكن ماذا عن إعادة خلق المكان في حالة الفيلم السينمائي، في مكان آخر وبيئة أخرى مختلفة في أجوائها وتضاريسها عن المكان الأصلي الذي يفترض أن تدور فيه الأحداث؟
يرتبط الفيلم السينمائي عادة بصورة المكان وتضاريسه وتفاصيله، فلكي يمكنك تصوير ما يحدث في الواقع المكاني، ربما يتعين عليك أن تصور في عين المكان نفسه، أو تصنع ما يطابقه.
وربما لهذا السبب لم يخرج الروسي أندريه تاركوفسكي فيلما واحدا عن روسيا بعد أن غادرها إلى الغرب، لكن تعبيره السينمائي في “الحنين” (أو نوستالجيا) (الذي أخرجه في إيطاليا) و”القربان” (الذي أخرجه في السويد) يظل تعبيرا شعريا مشبعا بالروح الروسية.
وفي الفيلم الأول يعكس حنينه إلى روسيا، التي تسكن خياله ومشاعره، من خلال التداعيات التي تعبر ذاكرة بطله، وفي “القربان” الذي يدور في مكان محايد غير محدد المعالم، يمكن أن يكون السويد أو أي بلد آخر، لكنه ليس بالتأكيد روسيا، يعبر بأسلوبه الشعري المميز عن العلاقة مع الله من خلال قصة رمزية ربما تدور على صعيد الخيال، فمن الصعب أن نعتبره تعبيرا واقعيا عن العلاقة بين ساحرة ومثقف يرى أن الساحرة ربما تكون هي السبب وراء الدمار النووي الذي يوشك على الوقوع ثم يتضرع إلى الله أن يقبل تحيته بكل ما يملك، مقابل ألاّ يقضي بهلاك العالم.
يقول تاركوفسكي في كتابه “النحت في الزمن”: “عن طريق الوسائل الفنية يقبض الفنان على الواقع من خلال تجربته الذاتية.. يحدث اكتشاف فني كل مرة كما لو كان اكتشافا جديدا فريدا لصورة العالم، الهيروغليفية الحقيقة المطلقة، إنه يبدو كوحي، كرغبة لحظية مشحونة بالمشاعر للإمساك اللاواعي بكل قوانين العالم، بجماله وقبحه، رقته وقسوته، سرمديته ومحدوديته..”
كان تاركوفسكي يميل للتفلسف والتعبير عن رؤية تتجاوز حدود الزمان والمكان، أما المخرج المصري طارق صالح المقيم في السويد فقد حاول أن يخرج فيلمه “حادثة النيل هيلتون” في المكان الطبيعي للأحداث، أي في القاهرة، لكنه لم يتمكن، فقد رفضت السلطات منحه ترخيصا بالتصوير، فكلف مصورا بتصوير بعض اللقطات الخارجية سرا من داخل سيارة، وقام بتصوير مشاهد الفيلم في مدينة الدار البيضاء بالمغرب، واستعان بممثلين مغاربة في الأدوار الثانوية وبممثل لبناني في الدور الرئيسي، فقد خشي نجوم السينما المصرية المشاركة في عمل يتهم الشرطة المصرية بالفساد وممارسة التعذيب.
ورغم ذلك، شارك الممثل المصري ياسر علي أحمد وزميله أحمد سليم في الفيلم، الأول استمر في العمل في الكثير من المسلسلات والأفلام في مصر حتى الآن، والثاني لم يعمل منذ أن شارك في هذا الفيلم، لكن هذا موضوع آخر!
أما الفيلم نفسه فعلى الرغم من موضوعه القوي والجهود التي بذلها مخرجه لتحقيق عمل بوليسي مثير، إلاّ أن ابتعاده عن المكان، أفقده الكثير، فقد غاب عنا الإحساس بطعم الأشياء، برائحة الشوارع، وبملمس زجاج الدكاكين، وبأجواء الأحياء الشعبية في القاهرة، والشعور بوجود البشر، بحيث تصبح بالتالي مطاردات الشرطة مقنعة، وقصور الطبقة الجديدة مقبولة، بل وبدا الممثل اللبناني بطله فارس فارس في حركاته وهو يقوم بدور الضابط بطل الفيلم، كما لو كان ضابطا في شرطة لوس أنجلس!