تونس.. هويات ما قبل الدولة

واحدة من أبرز المعضلات التي تعرفها تونس اليوم، هي معضلة تأثيث الصلاحيات والسلطات صلب مقولة الاستقلالية شبه التامة للمجالس والهيئات الدستورية والتعديلية.
السبت 2018/10/27
الانتكاس الهوياتي والمناطقي بعيد عن تونس

تفرض جموع البيانات الصادرة في تونس عن تنظيمات جهوية ومجالس بلدية، والمتفاعلة مع أحداث وطنية عامة من زاوية مناطقية صرفة وعبر طرق موغلة في المحلية، التوقف مليا والانتباه لما تخفيه الأكمة وراءها.

ففي نفس يوم إصدار المجلس البلديّ في محافظة المنستير بيانا يدافع فيه عن مدرب المنتخب التونسي المعزول فوزي البنزرتي، ويندد بطريقة عزله من الجامعة التونسية لكرة القدم، أصدر فريق الترجي الرياضي بجرجيس- منطقة في الجنوب الشرقي لتونس- بيانا سياسيا يرفض فيه التتبعات القضائية ضمن مسار العدالة الانتقالية ضد وزير الداخلية الأسبق أحمد فريعة.

خطورة الأمر لا تقتصر على التشابك الهجين الحاصل في تونس اليوم بين السلطات البلدية والسياسية والصلاحيات الانتقالية والرياضية، بل إنّ الأمر يكشف عن استيقاظ الهويات الفرعية وعن انفجار التعريفات المناطقية ضمن قضايا المجال العمومي والشأن الوطني الشامل.

وفي الوقت الذي كان من المفروض أن تتحول فيه التنظيمات والمؤسسات والمجالس النيابية المحلية إلى قاطرة نحو المزيد من التمدن والمواطنة، باتت وسيلة لإحياء منطق الغرائزية الجهوياتية والعصبية المناطقية.

وهي نتيجة منطقية لدولة مثل تونس حاربت على مدى نصف قرن منطق العروشية بمنطق الجهويات، وفي المقابل لم تبن دولة المواطنة حيث يكون الانضواء والانتماء إلى الوطن، لا إلى الجماعات الوشائجية، وإلى الدولة لا إلى الهويات الجزئية.

وهي نتيجة تلازمية لدولة استحثت بشكل متسرع مسار الانتخابات المحلية والحكم المحلي قبل توطين الديمقراطية وقبل ترسيخ مبادئ التشاركية، فلا الديمقراطية يمكنها أن تقف على أرض متحركة قوامها الجهويات النائمة والمناطقية الناعمة، ولا المواطنة بإمكانها أن تتأسس على منطق التشرذم في الحكم والتفتت في السلطة.

لن يجادل أحد في قيمة الحكم البلدي من حيث القرب من المواطن والاقتراب إلى مشكلاته، ولكن دون أن يتحول الحكم المناطقي إلى حكم مرجعي يستبدل مفهوم الوطن بالجهة أو الإقليم أو المنطقة.

صحيح أنه من المبالغ فيه أن نحمل البيانات الصادرة حمولة الانشقاق أو جينات التشرذم، ومن المجانب للصواب أيضا أن نضع البلاغات ضمن مسار استعصاء الحكم البلدي في تونس اليوم، ولكن من الواجب الالتفات إلى أن جدوى الحكم المحلي في التكامل مع الحكم المركزي، وأنه ليس بديلا عنه أو نقيضا له، وأن حكمة القرب في المواطن كامنة في تقريب الدولة ومؤسساتها الديمقراطية والتشاركية له، لا في الإيغال في منطق الخصوصية والجهوية والقبلية.

تعرف تونس اليوم أول الثمار الخطيرة لتجربة الحكم البلدي المتسرع، حيث أن التربة السياسية الهشّة تسمح لا فقط باستيلاد هويات ما قبل الدولة، وإنما أيضا باستنبات هويات ما بعد الدولة وهو الخطير.

فلئن عرفت تونس، مؤخرا، شواهد مؤسفة من الصدامات العروشية والقبلية باعتبارها تلخيصا لصراع هويات ما قبل الدولة، فإنها اليوم مقبلة على منطق التضامن الجهوي والعصبية المناطقية وهي المقدمات الخطيرة لمقولات ما بعد الدولة من حيث الانغلاق والتقوقع. وفي الحالة التونسية، يضعنا فشل دولة الاستقلال في سياق مقولات ما قبل الدولة الوطنية، ويحيلنا فشل دولة ما بعد 14 يناير 2011 ضمن مقولات ما بعد الدولة الوطنية، وفي الحالتين انتكاس هوياتي عن مطالب الحداثة والمواطنة.

صحيح أن تونس معصومة نسبيا عن الانقسام الجغرافي، وهي أيضا بمنأى عن الهويات الإثنية المفترسة، ولكنها في المقابل عرضة لمقولات الجهويات المقيتة والمناطقية التعيسة، وهي مقولات سرعان ما تظهر بفشل الدولة تارة، وبانحسار أدوار الحكم المركزي نحو الفيدرالية الناعمة تارة أخرى.

واحدة من أبرز المعضلات التي تعرفها تونس اليوم، هي معضلة تأثيث الصلاحيات والسلطات صلب مقولة الاستقلالية شبه التامة للمجالس والهيئات الدستورية والتعديلية.

نرجو أن يكون بلاغ المجلس البلدي لمحافظة المنستير، استثناء في الأداء والخطاب عن باقي المجالس البلدية، ولكن ما هو أبعد من منطق التمني كامن في مأسسة المواطنة وتبيئة الديمقراطية وتعميم التنمية وتأميم الكرامة، حينها فقط نتأكد أنّ الانتكاس الهوياتي والمناطقي بعيد عن تونس، أما دون ذلك فالمطبات كثيرة، فالأخطر من أحادية الدكتاتورية الفوضى والتشرذم والانقسام تحت ذرائع الديمقراطية التشاركية.

9