إنجيل الشك

أغرب حالات الشك التي مرت معي هي تلك التي وقعت في العام 1821 حين اجتمع عدد من كبار السياسيين في كونغرس كريولو، وقرروا إعلان استقلال منطقة أميركا الوسطى. كل هذا جيد حتى الآن. لكن السبب الذي دفعهم إلى ذلك كان الشك. لكن بماذا؟
يقول محضر الاجتماع “إنه يجب إعلان الاستقلال دون أي تأخير، من أجل تجنب النتائج الرهيبة التي قد تنجم عن قيام الشعب بفعل ذلك بنفسه. لأن مصادر المعلومات تشك بأن الشعب ينوي إعلان استقلال البلاد”. والويل لهم إن فعل الشعب.
ومن يعتقد أن اليقين المطلق، بالأشياء والأفكار، عادة جيدة، قد يكون مخطئا. فالأصل في حرية التفكير هو الشك بكل شيء، والشك من جديد باستمرار، حتى تبقى الظواهر تحت عين العقل الممحصة والمنقبة في أدق التفاصيل.
المبدع لا يحق له أن يركن إلى قناعة بفنه ولغته وأدواته وإنتاجه. والعالِم لا يجب أن يثق بالعالَم. فإن هذا الأخير في تغيّر مستمر، قوانينه مبنية على التحول لا على الركود. وإن كان ثمة جنة في هذا الوقت من الوجود، فستكون هي الواقع المثير للاهتمام بتغيراته وتطوراته الدائمة، أما الجحيم ففي الركود الطويل حتى تأسن الأفكار وتصبح ماء أسود.
ويعيش الشك مجده هذه الأيام، سواء في قضية اغتيال الصحافي العربي جمال خاشقجي وتداعياتها، أو ما يحصل في بريطانيا منذ منتصف سبتمبر الماضي، حيث سادت كما يقول الإعلام “سحب كثيفة من الشك” على مستقبل العلاقات بين بريطانيا والمنظومة الأوروبية.
وتسبب عامل الشك بنتائج مفاوضات الخروج باضطراب أسواق المال وتقلب الجنيه الإسترليني. وتباطأت عجلة الاقتصاد، فالشركات البريطانية أجلت قراراتها الاستثمارية إلى وقت لاحق، لأنها لا تعرف الحالة التي ستكون عليها العلاقات التجارية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بعد الانفصال.
الواعظ الأميركي كيسي جيرالد يقترح علينا ما يسميه بـ“إنجيل الشك” الذي يساعد المرء على التفكير من جديد في ما يحمل من أفكار، ليس بالضرورة دينية، ولكن أفكاره ومواقفه من الوجود ككل. وخاصة عند جيرالد ما يتعلق بالأعمال التجارية، باعتباره واعظا اقتصاديا وليس قسيسا.
يقول جيرالد “حين سينهار الكونغرس والاقتصاد معه. لن يأتي المسيح السياسي لينقذني. لأننا ننظر إلى المعاناة في ظل الرأسمالية كواقع حتمي، وننظر إلى التقدم التكنولوجي كحقيقة لا تقبل الخطأ. ونخشى دوما من أن نشكك في خطوة واحدة كي لا ينهار نظامنا الاقتصادي الذي نعتقد أنه إله دقيق في كل شيء. إنجيل الشك لا يتطلب منك أن تتوقف عن الإيمان. إنما نريد منك أن تؤمن بشيء جديد. نعم إنه يطرح علينا السؤال: لماذا رغم كل القدرات التي نمتلكها نحن البشر، مازالت البشرية تعاني؟”.