بيتر بروك ما زال هنا

بروك يروي قصة تدور رغم تجريديتها في محيط اجتماعي بدائي، يعتمد مبدأ العقاب في أقسى صوره، مثل قطع الرؤوس كما يروي الحارس للسجين، قبل أن يبدأ تدريجيا في التعاطف معه.
الأربعاء 2018/10/24
تقاليد "مسرح القسوة" لإبراز المعاناة الإنسانية

عرفنا بيتر بروك عبقري المسرح المعاصر منذ “مارا صاد” ثم “المهاباراتا”، وعندما نقول عبقري المسرح لا نقصد فقط المسرح الإنكليزي، بل المسرح بشكل عام، فهذا المخرج والكاتب العملاق الذي قدم أشهر أعمال شكسبير، هجر بلاده منذ أكثر من 40 عاما بعد أن أعلن موت المسرح التقليدي وذهب إلى فرنسا، حيث أسس فرقة صغيرة تخلصت من الأثقال والقيود المسرحية التقليدية، وأصبح يكتب ويخرج مع شريكته الفرنسية ماري إيلين إستيان.

بيتر بروك الآن في الثالثة والتسعين من عمره، ولكنه عاد مؤخرا في جولة بدأها في مهرجان إدنبره وانتهى بها في المسرح القومي البريطاني، حيث عرض مسرحيته الجديدة “السجين” في قاعة “دروفمان” ضمن الصرح المسرحي العريق، وهو يشبه مسرح الغرفة حيث توجد الحلبة المسرحية على الأرض بنفس مستوى مقاعد الجمهور التي تحيط بها من جوانبها الأربعة.

يتبع بيتر بروك في مسرحيته الجديدة كعادته، تقاليد “مسرح القسوة” الذي استمده من أنتونين أرتو الذي يبرز المعاناة الإنسانية الداخلية وما يفعله الإنسان بالإنسان متخلصا من عناصر المسرح التقليدي، فهو يستخدم ديكورا مناقضا للديكور المعقد المبهر الذي يستخدم في المسرح. وبدلا من ذلك، يفرش الحلبة بمجموعة من الأحجار وما يشبه فروع الأشجار وجذوعها المقطوعة الجافة اليابسة.

وهو ديكور تجريدي مقصود لتأكيد الطابع الإنساني العام على الحدث المسرحي الذي يدور في مكان بعيد متخيل وزمان غير محدد، ويعتمد على أفراد فرقته المتعددة الجنسيات التي كونها في فرنسا والتي تضم ممثلين من بريطانيا وسيريلانكا ورواندا، يبرز من بينهم بوجه خاص الممثل الشاب هيران إبيسكورا (من سيريلانكا) الذي يقوم بدور السجين الذي يقضي عقوبة على جريمة قتل والده، ولكن بدلا من البقاء داخل السجن يحكم عليه بالجلوس أمام مبنى السجن إلى أن ينتهي وقد أصبح السجن في داخله، ومن خلال هذه الفكرة يناقش بيتر بروك فكرة العدالة والعقاب ويعبر عن لا جدوى السجن.

في أحد المشاهد الرئيسية يبهرنا هيران بأدائه عندما يتخيل فأرا مختبئا داخل تجويف جذع شجرة، يناديه ويغريه بالطعام (الوهمي بالطبع)، ثم يلتقطه ويحتضنه ويقدم له الطعام ويمثل بيده من تحت غطاء الفأر وهو يأكل، ثم يضعه تحت إبطه ويداعبه كما لو كان يداعب قطة صغيرة، ثم يوبخه بعد أن بدأ يتألم قليلا من عضاته. هذا ممثل يتمتع بحيوية وقدرة كبيرة على التحرك بجسده أيضا، فنراه يتسلق أحد الأعمدة الحديدية ويصعد إلى الطابق الأعلى ثم يهبط بخفة الفراشة.

ويستخدم بروك الإظلام التدريجي الإضاءة للتعبير عن مرور الزمن، ويجعل أحيانا جزءا من الحلبة مظلما، حيث يرقد البطل السجين متكوّما على نفسه بينما تظهر الإضاءة التي تبزغ على الجانب الآخر شخصيات أخرى.

بروك يروي قصة تدور رغم تجريديتها في محيط اجتماعي بدائي، يعتمد مبدأ العقاب في أقسى صوره، مثل قطع الرؤوس كما يروي الحارس للسجين، قبل أن يبدأ تدريجيا في التعاطف معه، لكنه يحاول أن يستخلص درسا إنسانيا من بين طياتها.

يتميز العرض بالحوار البديع الذي يتخذ أبعادا فلسفية، أو يجنح إلى السخرية، ويتضمن الكثير من التساؤلات. الممثل الإنكليزي دونالد سمبتر، وهو الشاهد الذي يروي كيف بدأت القصة، يقطع السياق لكي يعلق ويشرح، قبل أن يندمج مجددا في تواصله مع السجين ومحنته التي تطول لسنوات. وهو يقوم بالدور كما لو كان دور بيتر بروك نفسه الذي يقول إنه سمع القصة أثناء زيارته لأفغانستان وقت الوجود السوفييتي هناك في الثمانينات.

بيتر بروك يهجر بالطبع فكرة الاندماج والتماثل بين الواقع والحدث المسرحي، ولا يستخدم أدوات فنية مثل المؤثرات البصرية والصوتية (يخلو العرض تماما من الموسيقى)، فهو يعود إلى أصول المسرح، ولذلك قوبلت مسرحيته في النقد البريطاني بالتحفظ والرفض، ومع ذلك يظل بروك وهو في سن الثالثة والتسعين، أهم المسرحيين التجريبيين في العالم وأكثرهم جرأة وحيوية

16