الجمال قد يصبح نقمة على صاحبته

"حكاية ريم الجميلة" للكاتب المصري مجيد طوبيا تثبت معنى مفاده أن "الجمال ليس نعمة في بعض الأحيان، بل نقمة في الكثير منه".
السبت 2018/10/20
الجمال يخفي تشوهات كثيرة (لوحة للفنانة سارة شامة)

يعتبر مجيد طوبيا من رواد كتاب الرواية والقصة المصريين في الستينات، وهو صاحب رواية “الهؤلاء” و”أبناء الصمت” ومجموعة “فوستوك يصل إلى القمر” و”تغريبة بني حتوت إلى بلاد الشمال والجنوب”، وغيرها من أعمال متميّزة نالت شهرة عريضة، ثم انطفأ وميض صاحبها في ظل مبدأ “آفة حارتنا النسيان” القاتل والمقيت في آن. وهو نسيان كسّره أخيرا صدور طبعة جديدة من روايته “حكاية ريم الجميلة”.

صدرت رواية “حكاية ريم الجميلة” للكاتب المصري مجيد طوبيا أول مرة عام 1991 عن دار أخبار اليوم. وأخيرا أعادت دار بتانة بالقاهرة إصدار الرواية في طبعة جديدة، كخطوة يمكن اعتبارها استعادة كاملة لأعمال طوبيا من جديد، وكرد فعل على تجاهله وتناسي كتاباته الرائدة من قبل مؤسسات الدولة.

حكاية بسيطة

من السهل أن نقول إن رواية “حكاية ريم الجميلة” حكاية بسيطة وعادية، تدور أحداثها لتثبت معنى مفاده أن “الجمال ليس نعمة في بعض الأحيان، بل نقمة في الكثير منه”. وهي فكرة سبق وأن أنتجتها السينما في أفلام انتهت بنهايات صادمة لتؤكد وتعزز هذا المعنى، وبالمثل من الممكن اعتبار الحكاية وجها لمدينة القاهرة (الاسم والصفة) أو النداهة كما صورها يوسف إدريس في قصته القصيرة “النداهة”.

في الحقيقة، الحكاية أعمق من اختزالها في هاتين النقطتين، نحن أمام حكاية أولا تدق أجراس الخطر، حول مفهوم التربية، وعلى مَن تقع التربية؟ وتطرح وهي تنسج حكايتها أسئلة تبحث عن إجابة لفهم هذا الخلل الذي قاد إلى الانحراف، خاصة أن ثمة قيما وأنساقا، كانت بمثابة حصانة للذات من الانزلاق. ومن هذه الأسئلة: هل الذات الإنسانية بصفة عامة مهيأة للسقوط والانحراف بسهولة، أم أن ثمة عوامل ضاغطة، قد لا تكون الظروف الاقتصادية السيئة كما كان الكل يضعها شماعة للانحراف. أو هل يكون الحب وسيلة أخرى للتغاضي عن المسلمات التي يقرها العرف والمجتمع؟ عبر هذه الأسئلة وأكثر تدور رواية مجيد طوبيا “حكاية ريم الجميلة”. ويبدو لي أن ريم استعارة لصورة مصر الجميلة التي أضحت عرضة لانتهاكات عدو الخارج / إسرائيل، وعدو الداخل / سياسة الانفتاح. فريم الجميلة صارت مطمعا للكل، مثلها مثل مصر؟

حكايات قصيرة تخفي عمقها ببساطتها
حكايات قصيرة تخفي عمقها ببساطتها

الجميل في الرواية إضافة إلى إنسيابية السرد، عبر هذه الحكاية التي تفارق بساطتها الظاهرة إلى دلالات أعمق، أنها تكشف عن جدلية البنى التحتية والفوقية وفقا لمصطلحات الماركسية، وإن كان بتأثير عكسي، فطوبيا يرى عكس ماركس أن البنى الفوقية هي المسؤولة عن التغيير، فالتدهور على مستوى الأنظمة السياسية يتبعه تدهور على مستوى المجتمع وهو ما كان. أهم ما يميّز الرواية هو غلبة فن القصة القصيرة على النص، فالرواية عبارة عن حكايات ذات مقاطع سردية قصيرة جدا، تحت عناوين فرعية، تمثل إضاءة للوحدة السردية، جميعها تندرج تحت إطار الوحدة السردية الكلية، التي تأخذ هي الأخرى عنوانا مستقلا هكذا “كباش الجنوب، شرفة الشمال، ريم تصبغ شعرها، قفص الحريم، والعمر في لا شيء يذهب، قراصنة وبراغيث”.. وغيرها من عناوين تعدّ تلخيصا لمضمون الفصل.

حكايات قصيرة إلا أنها مثل حَبات العقد، لا يظهر  بريقها إلا وهي ملضومة مع بعضها البعض، لتكون في النهاية هذه الحكاية المثيرة. وإن كانت ثمة تقنية فريدة اعتمدها طوبيا تخالف تقنية “الأنافورا” الغربية التي ترجمها مجدي وهبة بتكرارية الصدارة، وصلاح فضل بتقنية البدايات، هنا لا تتكرر كلمة أو أكثر أوائل الجمل، وإنما تتكرر جملة في سياقات مختلفة، كنوع من التحصين للشخصية من الانزلاق.

ألعاب خطرة

الرواية تمتد زمنيا إلى ما قبل الثورة، حيث العهد الملكي، وحرب فلسطين وحصار الفالوجا وتلك الامتيازات التي كان يحصل عليها والد ريم المزواج، فحصل على البَهوية، ثم أكمل الوجاهة بترشحه إلى البرلمان، إلى أن يَخْفت زمنه بعد الثورة، حتى تطل النكسة وحالة اللاحرب واللاسلم، وصولا إلى زمن الانفتاح وظهور جيل جديد من المنتفعين والمتسلقين.

يأخذ زمن الرواية خطّا تصاعديا، متتبّعا حالة الأب وزيجاته المتعددة، وصولا إلى النهاية التي انتهت إليها ريم وسقوطها ضحية لهذا الجمال الذي كان آفة عليها. ثم يترك السرد حكاية الأب وما آل إليه من مصير بعد زواجه من الحكيمة التي أَجْهزت على صحته وأمواله، فهربت بعد اشتداد مرضه، وسرقت ماله. ليتوقف السرد عند حكاية ريم، وأزمتها مع هذا الجمال منذ أن كانت طفلة تذهب إلى المدرسة، وغيرة الطالبات والمدرّسات من جمالها، وخوف الجارات من فتنة أبنائهن، كما فعلت الجارة أم محمود، وما صاحبه من إشاعات، انتهت بها إلى أن تنتقل إلى القاهرة في مدرسة داخلية بالقرب من أختها التي تزوجت من سراج جارهم وتركت الدخول إلى الجامعة. وإن كانت نقمة الجمال قد لاحقتها أثناء سنوات الجامعة، فأشاع النمّامون أن تفوقها كان بسبب مجاملات المعيدين لجمالها، وغيرها من أفعال.

في القاهرة تتكشف عوالم جديدة لم تكن تدركها ابنة الصعيد ثم الريف في ما بعد، فما إن دخلت المدرسة الداخلية حتى تصادف سكنها مع طالبتيْن؛ علية وسعاد، كانت علية متحررة كثيرا، وصاحبة علاقات حتى أنها في أول لقاء مع سراج زوج رجاء أخت ريم، استطاعت استدراجه، وحظيت بولاعته هدية بعد أن صحبها إلى شقة الجيزة التي كانت وكرا للالتقاء بعشيقاته بعيدا عن زوجته، ثم اكتشفت صورة أخرى من صور الانحراف متمثلة في علاقة علية المثلية بسعاد، وهي ليست العلاقة الوحيدة، ومن ثم لم تكن عابرة، وإنما إشارة إلى حالة التفسّخ التي وصلت إليها الذات، فتكررت العلاقة مع إصرار هيام البيروتية على أن تفعل هذا مع ريم ذاتها، في تلك الليلة التي انتقمتْ فيها ريم لنفسها ولها من الفنان يونس فريد.

كما تقدم الرواية صورا سردية متنوعة لحالة التشوّه على كافة مستوياته: الأخلاقية والطبقية والثقافية.. وغيرها، التي أصابت المجتمع المصري في ذلك الوقت. ولو وقفنا عند الشخصية الرئيسية ريم لفهم هذه التحولات في شخصيتها، لاكتشفا أن هذه التحولات ترتبط بزمن النكسة، فمع دخول ريم الجامعة المتزامن مع حرب الأيام الستة، بدأت ريم تأخذ مسارا آخر غير ذلك الذي تبنته طيلة حياتها، ومن ثم يبرز التوازي المقصود من عكس الأحداث السياسية على سقوط البطلة التي لم تكن لها علاقة بالسياسة، وكأن الراوي الضمني الذي يتوازى مع المؤلف الخارجي يستشعر الخطر الحقيقي لهذه الكارثة التي لم تكن بدايتها سقوط سيناء والقناة بأيدي جنود الاحتلال، وإجبار رمز الدولة على التنحي، وإنما كان وَقْعها تجاوز السقوط السياسي إلى السقوط الأخلاقي، ومن ثم نلاحظ السقوط الموازي لريم.

تسقط أمام الفنان التشكيلي يونس فريد، فقبلت إقامة علاقة معه، وهو المتزوج ومعه طفلان أكبرهما عمره تسع سنوات. فتوازت بداية سقوطها مع سقوط الأرض، ودكّ إسرائيل لسيناء. ثم هوت مع سياسة الانفتاح. وعندما فطنت لخسارتها راحت تنشد حياة جديدة، متوسلَة لكل مَن جاء لها في أحلامها بأن يتركوها لوحدها. حتى وجدت سلوتها في سميتها وشبيهتها في الجمال ريم ابنة أختها رجاء، والتي جاءت بعد النصر وتحرير الأرض. وتسمية الطفلة الجديدة بريم وحملها لصفاتها الجمالية وما تحويه من دلالات رمزية وأبعاد أليجورية، تحيل على علاقة البنى الفوقية بالتحتية، وأن لا استعادة للذات إلا باستعادة الأرض.

15