تثقيف العين

من أجمل الفضائل الإسلامية المبكرة «غض البصر»، والتعفف عن التلصص، وكافة أشكال السلوك الدال على ارتقاء الإنسان، بتطور وعيه الحضاري والتزامه الأخلاقي. وقد اكتسبت مجتمعات أخرى هذه القيم، وتخلصت من رذيلة «البحلقة» في الرجال والنساء على السواء، في حين ارتددنا إلى جاهلية وُوجهت بالتأكيد على غض البصر، ولم نكتف حاليا بتجاهل الأمر الإلهي واللياقة الآدمية، وإنما تعدّت الكارثة حدود مدّ البصر، إلى أذى الألسنة والأيدي بتحرش يتناسب طرديا مع منسوب النفاق الديني الاجتماعي، وانضمام لاعبين جدد إلى فيالق «الدعاة»، والاستثمار في برامج تلفزيونية ليست إلا أكل عيش يختلط فيه الفقه بابتذال كوميدي ينزع الوقار والمهابة عن الشيوخ.
الحواس عموما، وأولها العين المستعدة للانقضاض، تحتاج إلى تثقيف وإعادة تربية على حب الجمال واستئناسه، وعدم الانزعاج منه أو الخشية عليه، واعتباره هبة لو ضنت علينا بها الحياة لكانت خشنة لا تطاق. وفي صيف قائظ مثل هذا الصيف، نشر سيد قطب قبل ثمانين عاما مقالا يصف الشواطئ الفقيرة من بهاء الجسد الأنثوي بأنها ميتة، ولو ألح الرجل على أهمية تثقيف العين، وتربية الأنفس على الاستعلاء عما يملكه الآخرون، لفعل خيرا بإعفائنا من تناسل سلالات القتلة كارهي الجمال أعداء الحياة، وهم أبناؤه الشرعيون.
من ينشأ وعيه ويرتقي على المحبة، والإيمان بفضيلة التنوع والاختلاف، ستجنب العنف والدعوة إلى الكراهية. ولم يغفل التاريخ جملا اعتراضية أبطالها مثقفون ينقصهم الشرف الإنساني والأدبي، مثل جون شتاينبك بمرافقته طيارا أميركيا، في غارة على فيتنام، وإشادته بقصف المدنيين، قائلا إن أصابع الطيار القاتل كانت «تضغط على مفاتيح إسقاط القنابل مثل أصابع عازف البيانو الماهر».
وليس الشاعر الأميركي إزرا باوند أقل وحشية بانحيازه إلى موسيليني، بعد أشهر على إعدام الشهيد عمر المختار. استثناءات لحلفاء الشيطان تؤكد قاعدة رهان الفنان على قيم الخير والجمال، تلك التي لم يكن في وسع سيد قطب الإخلاص لها.
فمن الإسكندرية كتب سيد قطب مقالا نشرته صحيفة الأهرام في 10 يوليو 1938 بعنوان «خواطر المصيف: الشواطئ الميتة!»، يعجب فيه من قدوم يوليو ولا تزال شواطئ الإسكندرية ميتة، وربط بين حيوية الشواطئ وانطلاق الأجساد، مؤكدا أن الجسد العاري يخلو مما يثير الخيال «أما حديث «الأجسام العارية» فقد كان لي فيه رأي لا بأس من إبدائه. إن الذين يتصورون العري على الشاطئ في صورته البشعة الحيوانية المخيفة جد واهمين… ليست في الجسم العاري على «البلاج» فتنة لمن يشاهده ويراه فى متناول عينه كل لحظة. وفتن الأجسام هناك هي المنتشرة في «البرنس» أو «الفستان» أما في «المايوه» فهي لا تجذب ولا تثير، وإن أثارت شيئا فهو الإعجاب الفني البعيد ـبقدر ما يستطاع ـ عن النظرة المخوفة المرهوبة!
لقد كنت أحسبني وحدي في هذه الخلة، ولكني صادفت الكثيرين، ممن لم يوهبوا طبيعة فنية، ولا موهبة شعرية، فلاحظت أن «الأجسام» تمر بهم عارية فلا تثير كثيرا من انتباههم، بينما تتسع الحدقات، وتتلفت الأعناق، إذا خطرت فتاة مستترة، تخفي الكثير وتظهر القليل، وحدثتهم في ذلك فصدقوا رأيي.
فالذين يدعون إلى إطالة «لباس» البحر وإلى ستر الأجسام بالبرانس، إنما يدعون في الواقع إلى إثارة الفتنة النائمة، وإيقاظ الشهوات الهادئة، وهم يحسبون أنهم مصلحون!
أطلقوا الشواطئ عارية لاعبة، أيها المصلحون الغيورون على الأخلاق، فذلك خير ضمان لتهدئة الشهوات الجامحة، وخير ضمان للأخلاق.
غادر سيد قطب هذا الشاطئ، فامتلأت سطوره بدماء تتجدد طزاجتها كلما فتن به أحد التابعين بغير إحسان.