الفقراء في مصر.. للصبر حدود

يشتكي محدودو الدخل لذويهم والواقفين معهم بذات الصفوف التي أصبحت مشهورة في الكثير من الشوارع المصرية، من تعطيل الإجراءات وتعنت الموظفين، وهي محاولة ربما تكون لإخراج شحنات غضب مكتوم منذ فترة.
الأربعاء 2018/09/26
لقمة مغموسة في الذل

القاهرة – وقفت سميرة محمد، تحت حرارة الشمس الحارقة في منتصف النهار، ضمن صف طويل من المواطنين، وعندما تعبت من الوقوف تنحّت جانبا وجلست على أحد الأرصفة، تنتظر وصول الموظف المسؤول عن إضافة المواليد الجدد على بطاقات التموين، للحصول على دعم حكومي لأطفالها الثلاثة.

تأتي الأم لنفس المكان، كل يوم تقريبا، وإذا ساعدها الحظ ووصلت إلى الموظف بعد ساعات الانتظار، يطالبها ببحث اجتماعي يثبت أحقيتها في الحصول على دعم حكومي، وهي إشكالية تواجه عددا كبيرا من البسطاء.

 

تعرف الحكومة المصرية جيدا أن حوالي نصف الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر، ما يجعلها تعلم أيضا أن هؤلاء الفقراء يمثلون قاعدة شعبية هامة شاركت في الانتخابات على أمل الخروج من دائرة الجوع الذي حاصرها لسنوات طويلة، وحاولت الحكومة أن تقدم لهذه الشريحة المساعدات وأنفقت المليارات من الجنيهات، إلا أن الإجراءات الإدارية وتعنت الموظفين زادا من غضب هؤلاء البسطاء الذين ضجروا من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وفشلت الحكومة في نيل رضاهم ما يهددها بظهور صنف جديد من المعارضة أكثر شراسة من المعارضة السياسية سهلة الاحتواء بعد أن فشل قادتها في أن يشكلوا تهديدا حقيقيا للحكومة.

ويمكن مشاهدة العشرات وربما المئات يفترشون الأرض أو يقفون في صفوف طويلة، بمجرد المرور من أمام مكاتب هيئات التموين والبريد والشهر العقاري، وغيرها من المؤسسات الخدمية، ولا يحتاج الأمر إلى حديث مع هؤلاء لمعرفة رأيهم في الحكومة، حيث تبين ملامح أكثرهم، أنهم مشحونون بغضب قد يكون مقدمة لانفجار ما.

الطريقة التي يتم التعامل بها مع سميرة وغيرها من أرباب الأسر الفقيرة، للحصول على الامتيازات الجديدة التي منحتها لهم الحكومة لمواجهة الغلاء، صنعت منهم شخصيات معارضة، جراء شعورهم أن الحصول على الخدمة أو السلعة المدعومة يتطلب تجاوز صعوبات وتعقيدات لا حصر لها.

ويشتكي محدودو الدخل لذويهم والواقفين معهم بذات الصفوف التي أصبحت مشهورة في الكثير من الشوارع المصرية، من تعطيل الإجراءات وتعنت الموظفين، وهي محاولة ربما تكون لإخراج شحنات غضب مكتوم منذ فترة.

مؤسسات لا ترد الجميل

تبدو المشاجرات اليومية التي تحدث مع الموظفين، بابا جديدا لإخراج الكبت النفسي المدفون، لأن هؤلاء وغيرهم من الصعب وصول أصواتهم للمسؤولين عبر وسائل الإعلام التي تقف أكثرها في صف الحكومة وترفض التطرق إلى الكثير من السلبيات الظاهرة للعيان، ما أفقدها قدرا كبيرا من المصداقية.

ويتعمد أحيانا البعض من المسؤولين إظهار ودهم وبساطتهم بمجرد تعيينهم في مناصبهم الكبيرة، ثم سرعان ما يضجون بالبسطاء وينزوون داخل مكاتبهم، بعدما يكتشفوا أن المشكلات أكبر من قدرتهم على الحل في ظل إمكانيات حكومية محدودة، مقارنة بالمطالب الشعبية الضخمة.

ويمكن بسهولة لأي متابع للحالة المزاجية للبسطاء أن يشعر بتآكل القاعدة الشعبية التي كانت تعول عليها الحكومة في مواجهة خصومها السياسيين، في الداخل والخارج، ويكفي الانخراط وسط هؤلاء داخل أي مؤسسة خدمية ومتابعة طريقة التعامل مع الموظفين لاستكشاف حالة السخط.

ورصدت “العرب” عبر تواجدها في محيط أكثر من مصلحة حكومية خدمية، أنه من النادر خروج مواطن راض عن المعاملة أو يتحدث عن سهولة الإجراءات، وحتى لو حاول اخفاء غضبه، فملامح الوجه تفضحه، كأنه تحرر من عقوبة أو حصل على براءة، وتراه يضرب كفا بكف من شدة المعاناة التي تعرض إليها داخل المصلحة.

فهل هي مقدمة لحالة من السخط العام، أم تقليد بدأ يترسخ في وجدان الناس، أم رغبة في الحصول على المزيد من المزايا؟

تتذكر صابرين عيد، وهي سيدة خمسينية، أنها وقفت كثيرا أمام مكتب التموين بحي المطرية في شمال القاهرة، أملا في الحصول على الزيادة الجديدة في السلع التموينية، لكن دون جدوى، بذريعة أن بطاقة هويتها منتهية الصلاحية، ومرة أخرى يقال لها إن أوراقك لم تأت للمصلحة.

ولا تستطيع السيدة شراء السلع الأساسية من المنافذ التجارية بأسعار السوق الحرة، وتقول لـ”العرب” “عندما ذهبت في الانتخابات الأخيرة للتصويت للرئيس عبدالفتاح السيسي كنت أعتقد أنه سيرد الجميل لنا ولكبار السن، لكنني أتعرض للعذاب كل يوم للحصول على الحد الأدنى من حقي الآدمي”.

وكانت هذه الفئة، مع فئتي المرأة والأقباط، من أكثر الفئات التي أقبلت على التصويت في الانتخابات الرئاسية التي جرت مارس الماضي، وأصبحت في نظر الحكومة القاعدة الأهم التي يمكن الاعتماد عليها لتحصين شعبية السيسي التي تتراجع في الشارع، لا سيما بين فئة الشباب التي تشعر بالتضييق على الحريات العامة.

طابور طويل على طعام قليل
طابور طويل على طعام قليل

البسطاء يصرخون

يعتقد البعض من الشرائح المهمشة أنهم اضطروا لمساندة الحكومة في تحمل أعباء الإصلاح الاقتصادي لأنها لوّحت بأن بديل الرفض هو غياب الأمن والاستقرار، وكأنها رسالة ترهيب، واللافت تغير نبرة الصمت التي اعتادوها، فأكثرهم كان يخشى الإفصاح عن ضيقه من الحكومة بشكل معلن، خوفا من تعرضه لمضايقات، لكن الآن الكثير منهم يصرخون في وجه الموظفين بالمصالح الحكومية دون اهتمام بالعواقب.

هذه الجرأة لم تكن معهودة، ربما نجمت عن كثافة الضغوط الاقتصادية التي لا يستطيع تحملها كثيرون في الوقت الراهن، ما يجعل التفكير في تحول الضجيج الاجتماعي إلى سياسي أمرا غير مستبعد. وتصمم الحكومة على التعامل مع ضجيج أو همهمات محدودي الدخل على أنها لا تمثل خطرا حقيقيا، بينما هناك مراقبون يعتبرون ذلك قمة الخطر الذي يمكن أن تواجهه مصر الفترة المقبلة، لصعوبة السيطرة عليه بالترهيب.

ولذلك تسعى جهات حكومية عديدة، بينها وزارة الدفاع والداخلية، لتقديم ما يشبه “الرشاوى” المقننة للمواطنين من خلال تقديم مساعدات مختلفة، في صورة سلع تموينية وخدمات بمقابل مادي منخفض، كي لا تخسر القاعدة الشعبية، لأن قرابة نصف المجتمع تحت خط الفقر.

وتلفت صابرين النظر إلى أن الحكومة “تتحدث عن حماية البسطاء من الغلاء، لكنها تدفعنا للغضب عليها بسبب الطريقة التي نحصل بها على حقوقنا.. أنا امرأة لأسرة من أربع فتيات، ولا أريد سوى رغيف الخبز، لكنهم حرموني منه دون سبب، ويبررون ذلك بأن صرف الخبز يتطلب موافقة وزارة التموين”.

ويؤكد النفور المتصاعد لهذه الفئة أن الحكومة أخفقت في إدارة العلاقة، بعدما ظنت أن صمت البسطاء على موجة الغلاء وسوء الأحوال المعيشية، سوف يستمر، ويمكن احتواء غضبهم بمضاعفة المساعدات فقط، بغض النظر عن التحسن العام.

ولا يفرق الشعور باليأس والإحباط، بين الشباب وكبار السن في الصفوف الطويلة، فالجميع تبدو على ملامحهم علامات الغضب، وبمجرد النبش معهم في شيء يتعلق بالحكومة، تأتي الردود عنيفة وغير متوقعة، ما يعكس أن الوزارات المعنية فشلت في تثبيت الاستقرار المجتمعي كأولوية قصوى، ويمكن أن تفاجأ بقنابل موقوتة متحركة.

لسنا متسولين

يقول حسين منصور، وهو مواطن خمسيني، “أي استقرار يتحدثون عنه وهم يدفعوننا للدعاء عليهم كل يوم، لينتقم منهم ربنا.. هم يعاقبوننا على فقرنا، ولا يتذكرون أننا عندما نغضب لا يمكن أن يقف أحد أمامنا.. لماذا أتعرض للعذاب لأحصل على حقي؟”، في إشارة إلى المشاجرة التي نشبت مع أحد موظفي مكتب التموين بسبب تعمده بطء الإجراءات.

ويتذكر في كلامه مع “العرب”، عندما جاء الأحد الماضي لإضافة نجليه على بطاقة التموين، أن الموظف تحدث بنبرة حادة دفعت باقي المواطنين لمحاولة اقتحام المكتب للاعتداء عليه. ويقول “الحكومة تنفق المليارات من الجنيهات لتساعد البسطاء، لكن طريقة المساعدة تجعلهم يتعاملون معنا بكراهية وبغض.. حكومتنا تتفنن في صناعة الغضب ضد الرئيس السيسي، وكأنها لا تريد له الحفاظ على شعبيته”.

ولم يخجل الرجل من التحدث بصوت مرتفع أمام العشرات من الأسر التي جاءت لذات الغرض، ويقول “لسنا متسولين يا حكومة، جئنا لنأخذ حقنا”، ثم يصمت قليلا أمام زيادة ارتعاش يديه وشعوره بالإرهاق، وينظر لمن حوله ويتحدث بهدوء “قال لنا أنتم نور عيني (يقصد السيسي).. لا يعرف أننا نحصل على رغيف الخبز بالتوسلات”.

ويقول عبدالحميد زايد أستاذ علم الاجتماع السياسي، إن تجاهل العوامل النفسية للبسطاء، وإنهاكهم عند الحصول على حقوقهم، يجعلان الحكومة تخسر قاعدة شعبية مهمة، فهي تنفق المليارات من الجنيهات ولا تجني نيل رضا هؤلاء، ومساندتها في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية الراهنة.

وأضاف لـ”العرب” أن تعمد الروتين يصنع معارضة مكبوتة ويتسبب في وجود حاجز نفسي مع الناس يصعب تحطيمه بسهولة، والخطر يكمن في غضب الفقراء الذين يتحركون بلا قائد، والسيطرة عليهم أو تحييدهم عملية ليست سهلة، وقد تستثمر تيارات مناوئة هذه الحالة بالنفخ في النار واللعب على توتر علاقة محدودي الدخل بالحكومة، وتحولهم من معارضين لدواع اقتصادية واجتماعية إلى معارضين سياسيين.

الانتظار يأكل العمر
الانتظار يأكل العمر

 

20