عباس النوري: اليسار اعتقل الثقافة السورية وكرّس نخبه

عباس النوري، اسم فني سوري من الصف الأول، ابن حي القيمرية في قلب دمشق العتيقة، حقق شهرة على صعيد العالم العربي كله، وهو الذي درس التاريخ في جامعة دمشق، ونشط في المسرح الجامعي زمن ازدهاره، وحقّق فيه مع نخبة من الفنانين السوريين قفزات نوعية إلى الأمام، ثم انتقل للعمل في السينما والتلفزيون، له آراء قد تبدو غريبة في الفن والحياة بشكل عام
كرم مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي لدول البحر المتوسط الذي تنعقد فعاليات دورته الـ34 في الفترة الممتدة بين 3 و8 أكتوبر الجاري، النجم السوري عباس النوري، والذي قال عنه ضيف “العرب”، “أشكر مهرجان الإسكندرية الذي يفكر بشكل حقيقي ومنهجي فعال، هم يبحثون عن الحقيقي وليس عن الصخب الإعلامي، أشكرهم على البادرة الجميلة، كنت ضد المهرجانات التي لديها ‘نمر خضراء’، بمعنى المهرجانات الحكومية التي تعطي جائزة ما بسبب جنسية الفنان أو الفيلم، أما في مصر فالريادة السينمائية راسخة، الدورة مثلا باسم نادية لطفي الفنانة الشهيرة المصرية التي تؤكد هذه اللفتة من المهرجان بأنها تمتلك حسا وطنيا كبيرا، وكذلك فهما عميقا راسخا للسينما والثقافة بوجه عام”.
ولأن التكريم جاء كما أعلنت لجنة المهرجان في افتتاح فعالياته الـ34 “للدور المؤثر للنجم السوري في السينما العربية”، عادت “العرب” للحديث عن السينما وأعماله وذكرياته وطموحه فيها، فقال عباس النوري “بشكل شخصي وشفاف، لا أدعي أنني سينمائي، ولا أقبل ادعاءات الكثيرين بذلك، وأعني تحديدا بعض المخرجين الذين يعملون في سوريا، والذين أشبعونا تنظيرا، وكانت نتائجهم مخزية”.
السينما خلاصة الثقافة
السينما كما يراها عباس النوري هي الثقافة في أهم خلاصاتها، السينما هي الحرية الكاملة في التعبير، الكاميرا السينمائية حينما تعتقل، تصبح فيديو كليب لأي أغنية عادية، والسينما عنده تعني التعبير الحر والدخول في تفاصيل الحياة، هي صناعة للثقافة وللمشاريع الفكرية.
ويقول “عندما عملت في السينما وهي قليلة على أي حال، كنت أذهب بحالة من يريد أن يتعلم من الآخر، هنالك لبس ما، خاصة في ما يتعلق بمسألة العلاقة مع الجمهور، في القطاع الخاص ورغم المطبات التي توجد فيه من حيث وجود ما يسمى بتوابل السينما، بنت علاقة ما مع الجمهور، الأمر الذي لم يستطع أن يفعله القطاع العام، حيث بقيت أفلامه للنخبة، إلاّ في محاولات قليلة، يمكنني أن أذكر منها تجربتين هامتين هما ‘الفهد’ لنبيل المالح، و’أحلام المدينة’ لمحمد ملص الذي فهم مزاج الناس في سوريا وحقّق المعادلة الصعبة، وهي إيجاد فيلم بشروط القطاع العام والجاذبية التي يحقّقها لأوسع قدر ممكن من الجمهور، الأمر الذي لم يتكرّر مع المبدع الكبير محمد ملص لاحقا، حيث ذهب إلى نخبويته السينمائية”.
ويرى أن السينما تمتحن نفسها بالنجاح الثقافي من خلال علاقتها مع الجمهور، لأنها خلاصة الثقافة، فالسينما لديه تعني تقديم ما يهم الجمهور بشرطية الفرجة الممتعة، إذ يرى النوري أن الجمهور لا يهتم بالطرق العبقرية التي يتحدث عنها بعض المخرجين في إدارة اللقطة السينمائية أو حركة الكاميرا.
مستشهدا “مخرج مثل جيميس كامرون صاحب الرائعتين العالميتين ‘تايتانيك’ و’آفاتار’، أوجد الكثير من الطرق الحديثة في العمل السينمائي، إلاّ أنه استخدم ذلك لإمتاعي كمشاهد وليس للتنظير الحرفي، ما يدور في سوريا غالبا هو حذلقات من أناس تعوزهم الجدية في العمل”.
وعن علاقة المبدع بما يدور حوله، وما يمكن أن يقدّمه، ومن ثم موقفه من المجريات الحالية في المحيط الحياتي، يقول “المشهد الثقافي يعني العلاقة المباشرة مع الناس وهمومهم وأوجاعهم، ما حدث في سوريا عبر السنوات السبع الماضية، جدير بأن يقدّم عددا كبيرا من الأفلام الهامة، التي ستوثق لمرحلة خطرة جدا واجهها الوطن، لا بد أن تفهم السينما السورية بكل أطيافه هذه العلاقة، وليس على طريقة الصحف الثلاث المقدسة”.
ويسترسل “لا بد من ترك شعارات المنظرين والمناضلين وسواهم والتوجه نحو الحياة الحقيقية، لأن حياتنا اليومية الآن مليئة بقصص يمكنها أن تخرج المئات من الأفلام وليس فيلما واحدا، في كل حجر دمر في بيت ما حكاية، في كل حي ومتجر وتلميذ وأب أو أم أكثر من حكاية، بعد هذه السنوات الصعبة لدينا مخزون هائل من الحكايات السينمائية، وهي التي يجب أن يتناولها المخرج المثقف في أفلامه”.
وعن بدايات عباس النوري من خلال الدراسة في الجامعة والتوجه نحو المسرح الجامعي أولا، قال “هذا الجانب من تاريخي الفني له اتجاهان، أولهما حميمي، يتعلق بعلاقاتي مع مجموعة من الأصدقاء الذين ارتبطت بهم بتلك الفترة، منهم سلوم حداد وبسام كوسا، واتجاه آخر مهني يتعلق بالحياة المسرحية السورية عموما”.
ويسترسل “شخصيا، كنت أحاول أن أكون متفرغا لكوني طالبا، ولكنني أحببت المسرح وعملت فيه وأعطيته اهتماما كبيرا مع مجموعة من الأكاديميين الذين عادوا واشتغلوا بالمسرح في سوريا، أذكر منهم حسن عويتي ونائلة الأطرش وفواز الساجر”.
.يستحضر النوري أجواء السبعينات، موضحا “مرحلة السبعينات كانت تمثل مرحلة الازدهار الحقيقي للمسرح الجامعي السوري في ظل وجود المسرح التجاري الخاص، لذلك كان لوجود عدد من المهتمين بالمسرح عامل حيوي وهام، فقدّم المسرح الجامعي آنذاك، أفكارا مختلفة تنتمي لليسار وعمل بشكل جدي وممتاز، ولكنه تجاوز أحيانا الحدود المنطقية له، فاحتل الحالة الثقافية والمشهد الفني المسرحي في سوريا وكرّس أسماء هي بالتأكيد غير مؤهلة للمكانة التي وصلت إليها، وهي صدارة المشهد الثقافي في سوريا”.
فصل الفني عن السياسي
يرى عباس النوري أن اليسار في تلك الحقبة اعتقل الريادة الثقافية ونصب نفسه سيدا عليها، مضيفا “أنا أقول هذا الكلام وأنا لست يمينيا، ولكنني إنسان ينتمي لفكرة أن التغيير ضروري في حركة المجتمع، أرى أن مسرح سعدالله ونوس هام وكبير في سوريا وهو قامة فكرية وإبداعية هامة، ولكن من الخطأ التعامل على أنه أب المسرح السوري من قبل البعض، فهناك أناس شعبيون أوجدوا مسرحا فطريا هائلا في قيمته، مثل المسرحي الكبير عبداللطيف فتحي”.
أما عن دور الثقافة في حياة الفنان والمجتمع، وعلاقته مع مكونات المشهد الثقافي السوري كاملا، يقول عباس النوري “الفنان غير المتشبع بالثقافة غير جدير بالفن، فالثقافة هي المشروع الأول والأخير للفنان”.
ويقرّ النوري بأن المشهد الثقافي السوري الآن متشظ، ولا بد أن يستعيد وحدته، مؤكدا أن كل المبدعين الذين غادروا سوريا لظروف شتى، لم تصادر حصتهم في وطنهم على الصعيد الوطني والفني، وهو يرى أن دورهم مكمل تماما لدور البقية.
ويضيف “هم حاضرون في المشهد الثقافي السوري حتى لو توجهوا إلى المريخ، المشهد الثقافي السوري لن يكتمل بلا وجودهم ووجود الاختلاف معهم، هناك أشخاص في المشهد الثقافي في الداخل، أصبح وجودهم الإبداعي معيبا، كونهم يعملون ضمن أطر محددة، تمنع وجود الاختلاف بالرأي بأي شكل، بل ويصل الأمر ببعضهم إلى منع مشاريع معينة من النجاح تحت مسميات عدة”.
ولا يعرف النوري إلى حدود هذه اللحظة الأسباب التي جعلت لجنة الرقابة السورية ترفض عرض مسلسله الأخير “ترجمان الأشواق” للمخرج السينمائي محمد عبدالعزيز، رغم اعترافها بالقيمة الهامة للعمل حسب بيانها الرسمي، ويقول “لم أفهم طبيعة هذه الرقابة التي مُورست على المسلسل من قبل وزارة الإعلام، علما أنه من إنتاجها، هذه العقلية تفضل التخلف وتعمل على ترسيخه، أنا أرفض مطلقا أن يكون الفنان سياسيا، لأنه سوف يحصر بالأيديولوجيا، أعرف التوجهات السياسية للفنانين وأحترمها وأجلها، ولكنني شخصيا لا أرى أن الفنان يجب أن يكون ضمن السياسة، بل هو فوقها”.
ويختم عباس النوري حواره مع “العرب” قائلا “مشكلة السياسة في الفن أوصلتنا لإشكال هام، يتمحور في سؤال: من هي الجهة الفنية في سوريا التي توزع شهادات الوطنية على الفنانين، ومن هي الجهة التي توزع شهادات اللاوطنية؟ منذ فترة كرمت في بلاد عربية فقلت حينها إنني أقدّم هذه الجائزة لكل الفنانين السوريين، حتى الذين تركوا البلاد لشرط أمني أو سياسي، لأنهم شركاء لي في هذا الوطن وأنا شريك لهم ونحن نكمل بعضنا البعض”.