التوظيف المخيف للتكنولوجيا يضع البشر تحت رحمة من لا يرحم

البشر يعيشون في عالم تتبوأ فيه الحقائق مكانة مهمة، ولكن وسائل التكنولوجيا جعلت الكثير من الأكاذيب تبدو وكأنها حقيقة عن طريق أساليب الخداع والتزييف التي طالت الكثير من الجوانب الحياتية.
صُممت التكنولوجيا لتسهل حياة الناس، إلا أنها ساهمت أيضا في تدمير سعادة الكثيرين، بعد أن أصبحت أداة سهلة في يد المبتزين والهاركرز الذين لا يولون أي اعتبار للقيم الاجتماعية والأخلاقية والمبادئ، وتجاوزت استخداماتهم للتكنولوجيا حدود الحق الشخصي، لتعتدي على خصوصيات الغير.
والمقلق في الأمر أن أنظمة الذكاء الاصطناعي مدربة للتفوق على القدرات العقلية للبشر، وهذا ما جعل مجال دراسة أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي مجالا متطورا بسرعة، نظرا لكونها تمس حياة البشر بطريقة مباشرة.
فرغم أن البشر يعيشون في عالم تتبوأ فيه الحقائق مكانة مهمة، وينبغي أن تكون كذلك بالفعل، إلا أن وسائل التكنولوجيا قد تمكنت فعلا من أن تجعل الكثير من الأكاذيب، تبدو وكأنها حقيقة عن طريق أساليب الخداع والتزييف، التي ساعدت على خلق عالم يسهل فيه الخلط بين الحقيقة والكذب، ويصعب فيه التمييز بين الحقائق والأكاذيب ما جعل وسائل الإقناع الأخرى تفقد جدواها أحيانا.
سلوكيات الاستخدام
أعرب مايلز برونديج، الباحث في معهد مستقبل الإنسانية التابع لجامعة أوكسفورد، عن مخاوفه قائلا “الذكاء الاصطناعي سيغير نظرة المواطنين والمنظمات والدول إلى المخاطر، سواء كان ذلك من خلال قيام المجرمين بتدريب الآلات على الاختراق أو ‘التصيد’ على المستويات البشرية للأداء أو القضاء على الخصوصية والمراقبة، ستكون هناك آثار هائلة وواسعة النطاق على الأمن”.
ومثلت الأخبار الزائفة والمحاكاة بدقة عجيبة للواقع في الآونة الأخيرة شكلا جديدا من الاستخدام المخيف لتقنيات الذكاء الاصطناعي الذي حذّر منه عالم الفيزياء البريطاني الراحل ستيفن هوكينغ، عندما أكد أن أجهزة الذكاء الاصطناعي ستتمكن من “تسطير نهاية الجنس البشري”.
وكان مقال نشر على موقع “موذر بورد” للتكنولوجيا قد تكهن بأن الأمر قد يستغرق عاما قبل أن تصبح عملية التزييف تتم آليا عن طريق الكمبيوتر، ولكن الأمر استغرق شهرا واحدا.
وقد سمحت التكنولوجيا للقراصنة البارعين في مجال الكمبيوتر وحتى للأشخاص العاديين من إنتاج مقاطع فيديو لأشخاص يبدو وكأنهم يقولون أو يفعلون أشياء لم يفعلوها في الواقع.
الأخبار الزائفة مثلت في الآونة الأخيرة شكلا جديدا من الاستخدام المخيف لتقنيات الذكاء الاصطناعي
وفي هذا السياق، قال العالم في مجال الكمبيوتر بن تشاو، وهو أحد الباحثين الذين شاركوا في دراسة أجريت بجامعة شيكاغو الأميركية “لقد شهدنا بالفعل كيف يمكن استخدام القدرة على نشر الأخبار الزائفة، كوسيلة للتأثير على الرأي العام ونتائج الانتخابات. وإذا تمكن المهاجمون من استغلال تقنيات الذكاء الاصطناعي لفبركة مراجعات وتقييمات تحاكي تلك الفعلية والواقعية بأعداد كبيرة وعلى نطاق واسع، فسيكون من العسير للغاية تمييز الحقيقي من الزائف”.
وكشف باحثون أميركيون خلال شهر أغسطس الماضي أن قراصنة إلكترونيين روسا وحسابات مؤتمتة تستخدم بوتات (برمجيات تقوم بمهام مراقبة التفاعل على الإنترنت والبحث والتصنيف وحتى الاحتيال وسرقة البيانات) نشروا معلومات مضللة بشأن اللقاحات على موقع تويتر لخلق حالة من الاضطراب الاجتماعي، فضلا عن نشر برمجيات ضارة.
وقال الباحثون إن حسابات القراصنة التي حاولت التأثير في الانتخابات الأميركية قد نشرت أيضا تغريدات عن هذه اللقاحات.
ونُشرت العديد من الرسائل المؤيدة والمعارضة لعملية التلقيح لخلق حالة “تعادل زائف” بين الطرفين، بحسب ما ذكر الباحثون الأميركيون.
وأوضح مارك دريدزا من جامعة جون هوبكنز أن التلقيح استخدم في منشورات وزعها القراصنة والبرمجيات الإلكترونية المعقدة (بوتات) “كقضية لإثارة الخلاف”.وأضاف أنهم “بلعبهم دور طرفي الخلاف، يقللون ثقة الناس بعملية التلقيح ويعرضوننا لخطر الأمراض المعدية”.
وقالت منظمة الصحة العالمية في وقت سابق إن حالات الحصبة في أوروبا قد ارتفعت بشكل قياسي، ويلقي الخبراء باللائمة في هذا الارتفاع على انخفاض عدد من يتلقون اللقاح المضاد للمرض.
الانتقام الإباحي
تداولت مواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة الكثير من الأكاذيب، على أنها حقائق تتعلق بمواضيع تدور حول الانتخابات الأميركية واستفتاء عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي (بريكسيت) وعدة مواضيع أخرى، لكن الأخطر في هذه الأكاذيب هو الصور والفيديوهات الزائفة التي طالت عالم المشاهير والسياسة وحتى البعض من عامة الناس، وأبرزتهم في وضعيات مخلة بالحياء، لا يحسدون عليها.
ففي الماضي كانت عمليات التركيب والتزييف للصور مهمة صعبة وتتطلب ذكاء خارقا وجهدا كبيرا، ولم يكن من اليسير التلاعب في تسجيلات الفيديو خاصة، لأن عمليات المونتاج المتقنة تتطلب إمكانيات كبيرة.
ولكن مؤخرا أصبح الأمر بسيطا جدا، فيكفي أن يتم تجميع عدد من الصور للشخص المستهدف، ثم اختيار فيلم إباحي لتزييفه وبقية الخطوات يتكفل بها جهاز الكمبيوتر.
وعلى الرغم من أن التسجيلات مزيفة، لكن تأثيرها يمكن أن يكون كبيرا عندما تستخدم لأغراض الدعاية أو التشهير، وقد تكون الآثار الاجتماعية أقوى بكثير من القيمة المادية التي يدفعها الكثيرون للمبتزين الإلكترونيين.
وتكمن المشكلة في أن السياسيين ونجوم الفن بإمكانهم الخروج إلى العلن وتفنيد تلك الأكاذيب الكيدية المحاكة ضدهم، في حين يظل معظم الأشخاص العاديين يعانون في صمت، ولا يتجرؤون على إخبار أقرب الناس إليهم، خوفا من تدمير حياتهم الخاصة، ما يجبرهم على الامتثال للمبتزين وتلبية طلباتهم.
ولا توجد إحصاءات دقيقة حول حجم الظاهرة ومدى انتشارها في دول العالم، لأن أغلب الحوادث تبقى طي الكتمان بسبب الخوف من “العار” الذي قد يلحق ضررا بالضحايا.
لكن دراسة حديثة كشفت أن قراصنة الإنترنت قد جنوا حوالي 500 ألف دولار من رسائل بريد إلكتروني، تحمل طابع “التهديد الجنسي” بعد إرسالهم رسائل إلى العديد من الأشخاص، يدعون فيها أنهم قاموا باختراق كاميرا الويب لدى الهدف المعين، وسجلوا مشاهدة لأفلام إباحية و”أمور سيئة”.
ويطالب المحتالون بالآلاف من الدولارات بعملة بيتكوين كـ”سعر عادل للسر الصغير”، ويدعون أنه يجب دفعها في غضون 24 ساعة، وإلا فسيتم إرسال الفيديو إلى كل شخص يعرفه مستلم الرسالة.
وتستمر الرسائل بالقول “مع ذلك، إذا حصلت على المال، فسأحذف الفيديو بشكل خفي. وإذا كنت تريد دليلا، فقم بالرد بـ(نعم!) وسأرسل تسجيل الفيديو الخاص بك إلى 5 من أصدقائك. هذا عرض غير قابل للتفاوض، لذا لا تضيع وقتي ووقتك من خلال الرد على هذه الرسالة الإلكترونية”.
وأجرت شركة فيسبوك العام الماضي اختبارات على نظام يتيح للمستخدمين إرسال رسائل لأنفسهم تتضمن صورهم عرايا، وذلك في مسعى لمواجهة الظاهرة المعروفة باسم “الانتقام الإباحي” والمتمثلة في الانتقام من أشخاص معينين بنشر فيديوهات وصور حميمية لهم على الإنترنت لأجل الانتقام أو الابتزاز.
ويخزن النظام “بصمة” للصور لمنع تداول أي نسخ منها من جانب عشاق سابقين. وتشير دراسات إلى أن واحدة من بين كل خمس نساء تتراوح أعمارهن بين 18 و45 عاما ربما تعرضت لإساءة باستخدام صورها.
ومن جانبها تعمل مجموعة غوغل الأميركية العملاقة على القضاء على ظاهرة “الانتقام الإباحي”، ولهذا الغرض قررت المجموعة سحب نتائج البحث التي تتضمن صورا لأشخاص عراة أو مواقف جنسية عند طلب الأشخاص المعنيين.
إلا أن الخبراء يرون أن هذه الإجراءات لا يستفيد منها إلا قلة من المستخدمين، وعند التفكير في الكم الهائل من الصور الحميمية التي التقطت والتي يجري نشرها يوميا، لن يكون ذلك حلا على ما يبدو.
حرب على التزييف
* توعّدت الحكومة المغربية، مايو الماضي “مروّجي الأخبار الزائفة” بالملاحقة القانونية، على خلفية حملة شعبية تدعو إلى مقاطعة منتجات 3 شركات بالسوق المحلية. وقال المتحدث باسم الحكومة مصطفى الخلفي إن الحكومة “ستدرس مراجعة القانون الحالي، لأن ترويج أخبار غير صحيحة يمس باقتصاد البلاد وسمعتها، ولا يمكن لأي كان القبول بذلك”. ولم يقدّم الخلفي أمثلة عن “الأخبار الزائفة” التي تحدّث عنها، لكن تقارير إعلامية محلية تحدّثت عن بعض الأخبار القائلة إن هذه الشركات التي تجري مقاطعة منتجاتها رفعت الأسعار.
* وافق أعضاء البرلمان في ماليزيا، أبريل الماضي، على قانون لمكافحة “الأخبار الكاذبة ” وذلك بعد أن صوت 123 نائبا لصالح مشروع القانون في مقابل 64 نائبا صوتوا ضد تمرير هذا المشروع. وبموجب مشروع القانون، يمكن تغريم المسؤولين عن “كتابة أو تقديم أو نشر أخبار مزيفة” بأكثر من 100 ألف دولار أميركي ومعاقبتهم بالسجن لمدة ست سنوات. وحسبما قالت الوزيرة أزالينا عثمان في منشور على موقع فيسبوك، يهدف القانون إلى “كبح الانتشار السريع للأخبار الكاذبة التي يمكن أن تجعل أي شخص ضحية”، وأضافت “إذا لم يعتزم أحد نشر أنباء كاذبة، فلا يوجد ما نخشاه”.
* أعرب عمالقة التكنولوجيا، مارس الماضي، عن قلقهم بشأن خطط الحكومة السنغافورية للحد من انتشار الأخبار الكاذبة، مشيرين إلى الصعوبة التي ينطوي عليها تعريف الأخبار الكاذبة ومخاوفهم من تجاوز التشريعات التي يتم التوصل إليها، ما قد يعد انتهاكا للحق في حرية التعبير. وامتثل مسؤولون من مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك وتويتر وغوغل” للحضور أمام إحدى اللجان خلال جلسة من جلسات الاستماع الثماني في البرلمان حول تهديد الأخبار الكاذبة. وتعد سنغافورة واحدا من عدد متزايد من البلدان التي تستكشف طرقا لسن تشريعات لمكافحة الأخبار الزائفة.
* تبنت بعض البلدان أو تستعد لإقرار تشريعات لمحاربة نشر أخبار كاذبة وملفقة عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو محاولات التضليل في فترات الانتخابات. ومن بينها ألمانيا حيث تبنى النواب الألمان في يونيو 2017 قانونا يمنع نشر عبارات تنم عن الكراهية عبر شبكات التواصل الاجتماعي وكذلك الأخبار الملفقة والدعاية الإرهابية. وهناك أيضا البرازيل التي لا يوجد بها تشريع محدد يتناول الأخبار الملفقة، ولكن يُنظر الآن في ما لا يقل عن 14 مشروعا حول الموضوع. ويتضمن القانون الكيني مادة تنص على غرامة قدرها 50 ألف دولار أو السجن سنتين لنشر “بيانات كاذبة”.
* كان موقع ريديت الأميركي حظر أبريل الماضي 944 حسابا، منها حسابات كانت تروج فيديو جنسيا مزيفا لهيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية السابقة والمرشحة الخاسرة في انتخابات الرئاسة 2016. وأفادت تقارير بأن أحد مقاطع الفيديو، الذي يحمل عنوان “شريط جنسي مسرب لهيلاري كلينتون في فندق”، تم تركيبه من خلال شركة “وكالة أبحاث الإنترنت” الروسية. وقال ألان باسكاييف موظف سابق بشركة “وكالة أبحاث الإنترنت”، لتلفزيون “رين تي في” الروسي أكتوبر الماضي إن الشركة هي من صنعت شريط الفيديو المزيف لهيلاري كلينتون.