وزيرة عدل فرنسية سابقة تستنجد بالكتب للهروب من الضجر

كريستيان توبيرا تعتقد أن أفضل السياسيين قديما وحديثا هم أولئك الذين يكرمون المبدعين ويجعلون من الكتب وسيلة أساسية لمعالجة القضايا التي تعيشها مجتمعاتهم.
الخميس 2018/08/16
توبيرا: أن تقرأ يعني أن تكتسب حريتك

خلال فترات الاستراحة من الأعمال والنشاطات السياسية، تحب كريستيان توبيرا المولودة في جزيرة لاغويان عام 1952، والتي شغلت مناصب رفيعة في الدولة الفرنسية، إذ كانت وزيرة للعدل في حكومة فرانسوا هولاند، أن تنشغل بالأدب، وأن تكتب عن أدباء وشعراء ومفكرين تأثرت بهم وبأفكارهم لتستعين بها في مواجهة مختلف القضايا، السياسية منها بالخصوص، وهي ترى أن الكتاب مصدر أساسي للسعادة في مفهومها العميق.

وفي كل كتاب تعجب به، تعثر على ما يستجيب لجانب من جوانب شخصيتها، كما أنها تعتقد أن أفضل السياسيين قديما وحديثا هم أولئك الذين يكرمون المبدعين والفنانين، ويجعلون من الكتب وسيلة أساسية لمعالجة القضايا التي تعيشها مجتمعاتهم.

ويتجلى عشق كريستيان توبيرا للكتب وللقراءة من خلال كتابها الصغير الصادر حديثا عن دار” فيليب راي” الفرنسية تحت عنوان “سَرَبنْدة باروكية”، وفي هذا الكتاب تتحدث عن روائيين وشعراء من مختلف أنحاء العالم، ومن مختلف الحقب التاريخية، وعن التأثيرات التي فعلت فيها منذ أن كانت فتاة صغيرة “تستنجد” بالكتب للهروب من الضجر، ومن ضجيج الشارع  الكاراييبي (نسبة إلى البحر الكاراييبي) الذي لا يكاد ينقطع، لا في الليل ولا في النهار.

لكنها لم تحب كل الكتب التي وقعت بين يديها، إذ كانت من بينها كتب “ثقيلة”، و”مضجرة”، و”سطحية” و”مزعجة” إلى حد كبير، وهناك كتب “تروج أكاذيب”، و”مغالطات”، وعندما يعجب بهذه الكتب صديق عزيز عليها تشعر بأنها تبتعد عنه، وأن عواطفها نحوه  تتقلص، بل قد تنضب تماما.

وتقول كريستيان توببرا إن كتابا واحدا قد يكون كافيا أحيانا لكي يعشق هذا أو ذاك القراءة، ويصبح مفتونا بها فلا يتخلى عنها أبدا، وبالنسبة لها كان كتاب المفكر البرازيلي خوزيه دو كاسترو (1908-1973) “رجال وسلعطانات” هو أول كتاب وفر لها متعة القراءة.

توبيرا تستنجد بالكتب للهروب من الضجر
توبيرا تستنجد بالكتب للهروب من الضجر

وكان هذا المفكر الذي عاش في أكثر المناطق فقرا في البرازيل قد ألف كتاب “جغرافية الجوع”، وفيه يصف معاناة الفقراء في مواجهة الجوع الذي يتهددهم يوميا، وقد ترجم هذا الكتاب إلى جل اللغات ونال شهرة عالمية واسعة. وفي “رجال وسلعطانات” يرسم خوزيه دو كسترو صورة آسرة لفقراء يقتاتون من السلعطانات البحرية التي تكاد تكون خالية من اللحم، مع ذلك هم يلتهمونها كاملة، ثم يتقيّؤونها لتعود بطونهم خاوية من جديد.

وتكتب كريستيان توبيرا قائلة “عثرت على هذا الكتاب في حقيبة قديمة كنت أخفيها تحت الفراش.. وقد قرأته دفعة واحدة من الدفة إلى الدفة لأستخلص منه أول هلعي تجاه العالم، وأول إحساسي بعدم الأمان”، وبعد مرور ثلاثة أعوام كانت كريستيان توبيرا من ضمن تلاميذ آخرين قادوا تظاهرة “جميلة” من أجل فرض اللغة البرتغالية التي هي لغة البرازيل في البرنامج الدراسي.

وفي سنوات شبابها فتنت كريستيان توبيرا بالشاعر الكارييبي الشهير إيمي سيزار، ووجدت في ديوانه “دفتر العودة إلى الوطن” الذي “َصعَقَ” أندريه بروتون، ما جعلها تنظر إلى الأشياء والعالم والناس بطريقة جديدة لم تألفها من قبل، فقد خلصها هذا الديوان من عقدة لونها وجنسيتها لتجد نفسها فخورة ومعتزة بتاريخ شعبها الذي عرف الاستعباد والهوان وذاق مرارة القهر وتعرض للسلب والنهب من قبيل القوى الاستعمارية البيضاء حتى بعد أن شاعت أفكار الثورة الفرنسية عن المساواة والأخوة والعدالة والحرية وغير ذلك من القيم الإنسانية النبيلة.

كما أن إيمي سيزار الذي “يسكن جرحا مقدسا” خلصها من الخوف الذي كانت تشعر به تجاه اللغة الفرنسية لتصبح هذه اللغة لغتها ووسيلتها للتعبير عن عواطفها وأفكارها مساعدة إياها على تجاوز الحدود بين الثقافات والحضارات، وبواسطة اللغة الفرنسية قرأت كريستيان توبيرا في سنوات شبابها “أغاني مالدورور” للوتريامون الذي لا يزال إلى حد هذه الساعة أحد شعرائها المفضلين.

وكان إيمي سيزار قد كتب عن “أغاني مالدورور” يقول “إنها -أي لغة لوتريامون- جميلة مثل قرار نزع الملكية.. وهو أول من أدرك أن الشعر يبدأ بالإفراط، والمغالاة، والمواضيع المحرمة”.

وتنتقد كريستيان توبيرا الفلاسفة والمفكرين الذين قسموا العالم إلى عالمين: واحد أبيض “متفوق” بحسب الطبيعة وآخر “منحط” بحسب الطبيعة أيضا، ورغم أن مونتسكيو كان يجد هذا التقسيم “فظيعا ومنفرا” إلاّ أنه كان يراه “ضروريا”، وكان الفرنسي الآخر جوزيف دو ماستر المعادي للثورة الفرنسية يقول إن “اللعنة لا تصيب فقط روح الرجل الأسود، بل هي مرسومة أيضا على شكله ولون بشرته”.

والقراءة سلحت كريستيان توبيرا بأفكار وأدوات لكي تشرع في رفض كل شكل من أشكال الخضوع والعبودية والطّاعة العمياء، إذ تقول “أن تقرأ يعني أن تكتسب حريتك، وأن تكون نفسك، وأن تتمرد على كل ما يهدّد كيانك ووجودك وقدرتك على أن تكون فاعلا في العالم بشكل أو بآخر.. أن تقرأ يعني أن تولد من جديد مع كل كتاب تستمتع بقراءته”.

15