الوطن السردي

تشابهت الكثير من الروايات العراقية في تناول موضوعة الإرهاب، وهو تشابه له ما يبرره على صعيد الواقع الفعلي الذي عانى ويعاني من الإرهاب بتعدد مسمياته، فإذا كان داعش وسواه من التنظيمات المتطرفة وما سببه من أذى واسع للبنية الاجتماعية الوطنية هو الأبرز في صندوق السرديات العراقية، فإن هناك تداعيات قد تبدو ثانوية في مجمل حصر هذه التسمية “الإرهاب” في ملمح واحد وتوصيف واحد، لا سيما وأن التسمية حُصرِت في زاوية واحدة وتوجهت إليها عدسات التصوير بشكل فوري وأغفلت أنواعاً أخرى من الإرهاب المتوالد أو المحايث لها، وهو ما فات الرواية العراقية بسبب انشغالاتها المتسارعة في قضية داعش ومتعلقاتها الاجتماعية والنفسية والوطنية.
ويمكن في هذا الصدد وضع “الفساد” بكل معانيه التعريفية والقاموسية في خانة الإرهاب الذي قد يتفوق على داعش في الأذى الكبير الذي ألحقهُ ويُلحقه بعامة الناس وما يتركه من سابقة خطيرة في تقويض الحياة المدنية وتوزيعها إلى شلل وكانتونات طائفية وعِرقية لصوصية لا تحفل بالوطنية ولا بالحياة الدستورية وبالتالي ستضحي الديمقراطية أكذوبة اخترعها الآخر لتذويب البلاد في صراعات شتى معروفة للجميع يتقدمها الفساد كعنوان صارخ في الحياة.
مثل هذه الأرضية التي تتوزع فيها مثل هذه السرديات الواسعة لم تقف الرواية العراقية عليها بعد؛ فثمة متون رئيسية كما يبدو لفتت الأنظار إليها وتركت الهوامش من دون أن تحفل بها حتى تضخمت وأصبحت هي المتون في نسقية تراكمية فاقت في أذاها ما كنا نصفه بـالإرهاب ونحن نحدد متوالياته وأنساقه بطريقة متشابهة تماماً، في الوقت الذي تنامى فيه نسق آخر لا يقل عنه شراهةً ووحشيةً وضِعةً وهو “الفساد” الذي جاء من المعطى الأول واستغلّ الظروف العامة التي أحاطت به ليكون الجينة القبيحة لداعش وسواه من التنظيمات المتأسلمة المتطرفة التي أنتجت مثل هذه الذخيرة الصعبة.
بالتالي فالسرديات العراقية نسيت وتناست أن للإرهاب أشكالاً كثيرة وصوراً ستبدو غائمة في نسقيتها الشخصية وهي تتحول في البلاد من صورة إلى أخرى تحت شعارات حزبية أو مذهبية، وليس داعش سوى ومضة ثقيلة عبرت الأفق العراقي والعربي، بالرغم مما خلّفه ويخلّفه من كوارث إنسانية، فيما سيبقى الفساد متشعباً في دهاليز الدولة ليس من السهولة الإمساك به أو إحاطته تماماً، لا سيما وأن العنوان السياسي بمسمّاه “الديمقراطي” هو الغطاء الشرعي له.
الرواية العراقية في سردياتها الواسعة وبعد أن خاضت غمار موضوعة الإرهاب من نوافذه المكتشفة والسرية معنية بما يفرزه الواقع السياسي من فساد صريح، سواء بفضح اللصوص السياسيين، أو بتحويل البلاد إلى مجموعات أسرية وألقاب متشابهة أو إشاعة الدم العراقي بطريقة مجانية وقمع الحريات والقضاء على فكرة المواطنة القادرة على البناء بتوفير فرص العمل المتساوية.
وستبدو مثل هذه المفردات أكثر تماسًّا مع المقالة السياسية منها إلى السرديات الكبرى، لكنها أيضاً “مادة” لا غنى عنها في تشريح الواقع العراقي الذي اكتنز بهذه المفردات المؤلمة، فالواقع هو الكنز المعرفي الذي يمد الكاتب بعناوينه، وهو الوطن الاجتماعي قبل أن يكون الوطن السياسي، وبالتالي هو الوطن السردي الذي علينا أن ننتج منه كبريات الأعمال الإبداعية من باب الإرهاب/ الفساد الذي احتال على يوميات الجماهير وأدخلها في دوّامات مؤثرة أعاقت وتعيق فكرة التقدم والتطور واللحاق بالشعوب المتحضرة.
السرديات الوطنية لا تخضع لزمن واحد، وهذا يعرفه الكتّاب، فالزمن الوطني مفتوح بعناصره القديمة والجديدة والمقبلة، وربما علينا استشراف المعطيات المتمخضة عن فساد وطن صنعه سياسيو المرحلة بمخططات نعتقد أن الفساد بكل أشكاله هو الناتج الطبيعي لإرهاب داعش والحركات المتأسلمة المفضوحة.