"فن البعاد".. الآخر في أعمال الفن الكولونيالي

أعمال معروضة في متحف برانلي جاك شيراك تتميز بكونها من وضع فنانين فرنسيين هاجروا إلى المستعمرات القديمة واستقروا فيها زمنا قد يطول وقد يقصر.
الاثنين 2018/07/23
نظرة أوروبية إلى الآخر والهناك
 

حتى مطلع العام القادم، يقام في “متحف برانلي” بالعاصمة الفرنسية باريس معرض بعنوان “فن البعاد”، يحتفي بأعمال فنية لم يسبق عرضها، لمجموعة من الفنانين الفرنسيين الذين جابوا البلدان التي كانت تحت سيطرة الإمبراطورية الكولونيالية الفرنسية، تعكس تطور النظرة التي يحملها الغرب عن الشرق، من نهاية القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين.

اعتاد “متحف برانلي جاك شيراك” بباريس منذ تأسيسه إقامة معارض للفنون الأولى التي تنتمي إلى الحضارات القديمة في أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وأفريقيا، ولكنه اختار هذه المرة دعوة رواده إلى اكتشاف مخزونه من الأعمال الفنية المتنوعة، عبر نحو مئتي عمل فني ما بين لوحات زيتية ورسوم ونقوش يرجع عهدها إلى الفترة الواقعة ما بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين، وتحمل نظرة أوروبية إلى الآخر والهناك، في ظل ما عرف بالإمبراطورية الكولونيالية الفرنسية.   وتتميز جميع الأعمال بكونها من وضع فنانين فرنسيين هاجروا إلى المستعمرات القديمة واستقروا فيها زمنا قد يطول وقد يقصر.

هذه الأعمال التي تمثل الآخر في شتى القارات تم اقتناؤها عام 1931 بمناسبة المعرض الكولونيالي، في وقت كان يعرض فيه حتى البشر داخل أقفاص من حديد، ثم وقع الاحتفاظ بها عقب نهاية الاستعمار في المتحف الوطني لفنون أفريقيا وأوقيانوسيا حتى عام 2003، عندما حلّ محله “متحف تاريخ الهجرة”، ونقلت الأعمال إلى المتحف الجديد الذي دشنه الرئيس الأسبق جاك شيراك عام 2006 وصار يحمل اسمه.

أعمال يتجلى فيها الاهتمام بالبيئة وبالأفراد، من زوايا فنية متعددة، يجد فيها الزائر تأملا فلسفيا عن تصوّر الغرب لما وراء البحار عبر أجيال، ويتلمّس في امتدادها الزمني تنامي الحركات الفنية والسياسية المتقابلة أحيانا، كالواقعية، والأحلامية (أي المرتبطة بالحلم)، والطبعانية، والإثنوغرافية، فضلا عن البروباغندا والتهويمات.

وينقسم المعرض إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول، وهو الأطول، يركز على الافتتان بالبلدان البعيدة، فالرسامون الذين سافروا إليها سرعان ما فتنوا بالمناظر الجديدة، فجاءت أعمالهم مصبوغة بـ”الإكزوتيسم”، حيث الألوان الزاهية والأضواء الساطعة تغري المشاهد الغربي بالارتحال والاستيطان، وإن لم تخل من الأفكار المسبقة، إذ عادة ما ينبني المخيال الغربي على تصوّر نمطي للمرأة، فهي في نظره بدائية، وبائسة، ومتخلفة، ولكنها تمتلك ميزات جسدية مغرية، لا تُستثنى من ذلك حتى لوحات غوغان وماتيس في جزيرة تاهيتي.

في حين أتى الجزء الثاني عن “الغيرية المتعددة”، ويحتوي على عدة بورتريهات، بعضها نمطي كما أسلفنا، وبعضها الآخر إثنوغرافي، فمنذ نهاية القرن التاسع عشر وتطور الدراسات الإثنوغرافية، صار الفنانون يحرصون على الأمانة في تمثل الثقافات الأخرى. وقد أقام عدة مستشرقين أمثال أوجين فرومانتان، وأوجين جيراردي، وإتيان ديني في شمال أفريقيا مدة طويلة، لينقلوا عن تلك الأماكن مشاهد من الحياة اليومية في مضارب البدو أو مدائن الحضر إلى جانب معالم إسلامية كالمسـاجد والزوايا والأضرحة.

ويتميز هذا الجزء بتنوع الوجوه المنتمية إلى ثقافات متعددة، والمرسومة بأساليب مختلفة، من مصر إلى البرازيل، ومن مدغشقر إلى الهند الصينية، ومن بلدان المغرب العربي إلى جزر المحيط الهادئ، مثل لوحات الهنود الأميركان لجورج كاتلان، والمناظر الطبيعية في فيتنام للوسيان ليافر، أو بورتريهات نساء الفولان أو البول في السنغال لفرنان لانطوان، ومشاهد من الحياة اليومية في مصر لإميل برتران.

أما الجزء الثالث، فيركز على احتفاء بعض الفنانين بالإمبريالية الكولونيالية والطريقة التي استولى بها الفرنسيون على تلك الأصقاع البعيدة، لا سيما بعد اقتسام الأوروبيين للقارة الأفريقية.

وتتجلى في الأعمال المعروضة هنا عنصرية البيض، وتفوقهم الحضاري المزعوم، إذ عادة ما تبرز الرجل الأبيض “المتحضر” أمام بدائيين بائسين ينظرون إليه نظرة إعجاب، لتذكر أن الفنانين خدموا الخطاب الكولونيالي، مثل لوحات أندري هرفيو التي تصوّر مختلف أدوار الجيش في المستعمرات، من مقيم عام، وضابط مسح تيوغرافي، وفاتح عظيم.

هي أعمال أنجزت تحت الطلب، وأمليت مواضيعها على الفنانين، لتظهر التباين بين الرجل الأبيض “المتمدن المتحضر” والشعب المستعمَر المتخلف، والمنزَّل في منزلة الدون، والذي لا يصلح إلاّ ليكون يدا عاملة لدى “الأسياد”.

وتقول مفوضة المعرض سارا لينيي “الأعمال المعروضة تبين تطلعا كبيرا إلى الأصقاع الأخرى البعيدة، فالهناك يمثل لدى الكثير من الفنانين الغربيين أفقَ تجديد لرؤيتهم وأدواتهم الفنية من خلال ثيمات ومواضيع غير مسبوقة البتة، واكتشاف نور آخر يغيّر مَلون الرسامين وحتى أيقنة اللوحات، وإن كانت أعمال الكثير منهم موسومة بالبروباغندا”.

16