شاب فرنسي جعلته رحلاته منذ سن العشرين كاتبا متمردا على الحدود

بلاز سندرار رجل متعدد المواهب، بين الرواية والاعترافات والمذكرات والسيرة الذاتية غزير الإنتاج من الكتب ومن أنواع متعددة، شديدة الاختلاف في ما بينها.
الجمعة 2018/07/20
بلاز ساندرار رحالة على خطى الشاعر رامبو
 

يحار المرء كثيرا أثناء قراءة رواية الكاتب الفرنسى بلاز سندرار، هل هي سيرة ذاتية أم مذكرات سجلها لواقع عاشه في رحلات غربا وشرقا من أوروبا إلى روسيا والصين والشرق الأقصى ليتعمق في تاريخها وحضاراتها وثقافاتها ويحتفي بأناسها، كاشفا عن تعاطفه مع الشرقيين.. إلى جانب ذلك نرى تجليات التأثيرات المباشرة من قبل عائلته على تكوين شخصيته وشغفه بتنوع قراءته واختلاف طرائق كتابته

يقول الكاتب بلاز سندرار حول بداية تجربته مع الكتابة “حتى سن العشرين لم أكن قارئا نهما، لكن بدأ حبي للقراءة والبحث والاطلاع في كل فروع المعرفة عند بداية عملي في البحرية التجارية وبسبب عملي في البحرية التجارية، أعتقد أنه ينبغي لي أن أشرح لكم كيف تم ذلك؟

أولًا أنا لا أعرف لماذا يذكرني هذا الكلام بالشاعر الفرنسي أرثور رامبو. المولود سنة 1854 والمتوفي 1891، الذي أنتج كل تراثه الأدبي من شعر ونثر قبل أن يصل إلى سن العشرين، ثم توقفت القريحة تماما عن الإنتاج حتى وفاته في سن السابعة والثلاثين، من الجائز أن السبب هو أننا-أي أنا وهو- نشترك في نفس النقطة المحورية حول سن العشرين، هو لكي يتوقف عن الإنتاج وأنا لكي أبدأ الإنتاج”.

مغامرات شخصية

في رواية “المغامرة” لبلاز سندرار والتي ترجمها وقدم لها الأديب عادل أسعد الميري، والصادرة عن دار آفاق، تبدأ الأحداث وفقا لسندرار “في الوقـت الذي كنت لا أزال فيه طفلا ومراهقا، في نابولي بإيطاليا، ثم تلميذا مسجلا في المدرسة الدولية بسويسرا، ثم طالبا مسجلا حتى العام الرابع بكلية طب ببرن، ومن المفترض أنني كنت متابعا للدراسة هناك.

 ولكن بدلا من ذلك تركت الدراسة، وأصبحت دائم التنقل: بين باريس ولندن وبرلين، حيث كانت لي دائما في كل هذه المدن الأماكن اللازمة للإقامة، حيث حدث ذات صباح أن أخذت القطار إلى سانت بطرسبرغ، فتغيرت حياتي بالكامل، المشكلة هي أن كل شيء في هذا العام كان قد بدأ يثير اهتمامي، خاصة عالم الشرق الأقصى. ومن روسيا ذهبت إلى الصين سنة 1904، ومن الصين ذهبت إلى فارس دون أي إحساس بأي عوائق تمنعني من حرية الحركة”.

ويقول الميري إن الشيء الأساسي الذي تجب معرفته عن بلاز سندرار هو أنه رجل متعدد المواهب، غزير الإنتاج من الكتب ومن أنواع متعددة، شديدة الاختلاف في ما بينها، ورغم أنه دودة كتب، إلا أنه كذلك رجل اجتماعي بامتياز.

الكتب هي نوع من السحر، يمارسه علينا نوع من السحرة هم المؤلفون، خاصة منذ وفرة النسخ في أيدي القرّاء وانتشار الكتاب

 إن متابعة مسيرته منذ أن تسلل من منزل والديه في سويسرا وهو بالكاد في السابعة عشرة من عمره وطوال حوالي خمسين عاما، أي تقريبا حتى نهاية الأربعينات، كان خط رحلاته أصعب في التتبع من خط أعظم رحالة التاريخ ماركو بولو أو ابن بطوطة أو السندباد البحري أو جيمس كوك”. وهذا ما قاله هنري ميلر عن بلاز سندرار في الكتاب الذي أصدره بعنوان”الكتب في حياتي” من ترجمة..أسامة منزلجي.

ورواية “المغامرة” تتكون من عدد من الفصول، يتحرك فيها المؤلف بحرية تامة، جيئة وذهابا في الجغرافيا والتاريخ. ولا يربط نفسه فيها بالقيود التقليدية، وهي فصول تحكي عن مغامرات، قد تكون للمؤلف سندرار نفسه، أو قد تكون لشخص آخر.

ويلفت الميري إلى إن هذا العمل يقع في منطقة وسط بين الرواية والاعترافات والمذكرات والسيرة الذاتية. وكثيرا ما كان المؤلف يترك نفسه تتحدث إلى نفسه في حوار داخلي حول بعض المعاني المجردة. بشكل عام هو يميل إلى النظام، خاصة في أثناء عرضه لنقاط مختلفة في موضوع واحد إذ يكثر من استعمال أولا وثانيا وثالثا أو1 و2 و3.

وأحداث هذه المغامرات تدور بين عدد كبير من الأماكن الجغرافية المختلفة، بين أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، بين إيطاليا وفرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا وروسيا وإيران والهند والبرازيل، في مراحل زمنية مختلفة من 1896 إلى 1946.

 اختار المؤلف أن يرتب أغلب الفصول جغرافيا، أي وفقا لانتقالاته بين الأماكن، لذلك غالبا ما يتعرف القارئ على المكان الذي يحكي عنه المؤلف في الصفحات الأولى من كل فصل، لكن في بعض الفصول يكون العنصر المسيطر هو تاريخ الحدث لا موقعه الجغرافي، والمؤلف في هذه الحالة يلتزم بالإشارات الزمنية.

الرياضيات والكتب

يقول سندرار في أحد الفصول “تنوعت قراءاتي في كل فروع المعرفة بنهم شديد حتى أنني كنت حرفيا ألتهم الكتب، كأنني ألتهم أطباقا من الطعام الشهي وقد حدث لي مرات عديدة أن أحسست بالاختناق من كثرة المعلومات، كما يحدث للبعض أحيانا أن يختنقوا بسبب توقف الطعام في حلوقهم، ثم اكتشفت مبكرا أن سعادتي الكبرى كانت في قراءة كتب علوم الرياضيات، التي تتمثل في ذهني في صورة البحر الذي أعبّ منه دون أن أرتوي”.

المؤلف يتحرك بحرية تامة
المؤلف يتحرك بحرية تامة

ويحكي أيضا “لم أعرف في حياتي إلا القليل من الرجال. الذين كان لديهم نفس الولع بالرياضيات. قد يكون هذا الولع قد

جاءني هو الآخر من أحد أسلافي وهو عالم الرياضيات ليونارد أولر، الذي كان أحد أعمام جدي وكان قد عمل في بلاط الملكة كاترين الثانية”.

وفي هذا السياق يلفت سندرار إلى أن أباه مارس لبعض الوقت مهنة تدريس الرياضيات في المدارس الثانوية، حتى دخل مجال الاختراعات العلمية فترك التدريس، ثم دخل بمجال رجال الأعمال في محاولة منه لتسويق اختراعاته العلمية، وبدأ سلسلة من الرحلات التي بدت بلا نهاية فهو بمجرد عودته من إحدى رحلاته يبدأ في إعداد نفسه للرحلة الجديدة، كما لو أنه قد أصيب بالوسواس القهري.

ويشير المؤلف إلى أنه في أحد أسفار التوراة، وهو سفر الجامعة لنبي الله سليمان الحكيم، ينتهي السفر في إصحاحه الثاني عشر بهذه العبارة الغريبة الدالة التي تقول: أقوال الحكماء راسخة في العقول كالمسامير المثبتة، ولا نهاية لتأليف المزيد من الكتب.

وأنا أقول لكم إن الكتب هي نوع من السحر، يمارسه علينا نوع من السحرة هم المؤلفون، خاصة منذ وفرة النسخ في أيدي القرّاء، أي منذ اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر، عندما أصبح في مقدور أقل الناس ثراء شراء كل ما يروق لهم من الكتب.

وأنا أقول لكم ليس هناك كتاب واحد لا يشع منه ولو شعاع ضوء واحد، مهما كان هذا الكتاب في مجموعه سيئا. وأنا أقول لكم إن كميات الكتب التي تمر عبر دكاكين الوراقين والكتبجية، المتزاحمة على أرصفة المشاة في باريس، بامتداد طول مجرى نهر السين، تزيد على كميات المياه الجارية أسفل الكباري عبر نهر السين.

14