تقنين وضع المدمنين الشباب المتعافين الطريق نحو انخراطهم في المجتمع

تمثل عملية إعادة التأهيل للشباب المدمنين السابقين، ومنحهم الفرصة للعمل كمعالجين في مراكز التأهيل، خطوة أولى للاعتراف بحقهم في الحياة والانخراط في المجتمع، لكن تبقى مشكلة مراكز تأهيل الإدمان والعاملين فيها تحت وطأة الضغوط من الرافضين لتقبلهم واستيعاب عملهم الذي يصب في صالح المجتمع
القاهرة – تجربة الإدمان قاسية ولها توابع كثيرة على الشباب الذين يشكلون النسبة الأكبر من المدمنين، وتمتد المعاناة إلى أسرهم التي تلعب دورا كبيرا في المشاركة برحلة المدمن العلاجية بدءا بالتخلص من المادة المخدرة في جسمه، وحتى مرحلة العلاج السلوكي لمنع الانتكاسة، وهي مرحلة مهمة وغاية في الخطورة، لأنها تتطلب معاملة خاصة ورعاية فائقة.
وتعتبر الشريحة الأكثر عرضة للدخول في عالم المخدرات والإدمان هي التي تعاني من الفقر والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة. لكن مع انتشار المخدرات بصورة كبيرة خصوصًا في المجتمع العربي، أصبح الدخول إلى عالم المخدرات متاحا للشباب والفتيات القصّر، تحت سن الـ18، وطلاب جامعات، إضافة إلى شباب من بيئة اقتصادية جيدة.
بداية الرحلة
على طاولة صغيرة وضعت في غرفة كبيرة، أعدت خصيصا داخل مركز تأهيل المدمنين (هاف واي) يجلس أمجد (32 عاما) مع أسرة جديدة ومدمن آخر. يبدأ بشرح الرحلة العلاجية التي تستمر من ستة إلى تسعة أشهر، كي ينجح المدمن في التعافي تماما، ويتخرج في المركز ليعود للحياة العامة كإنسان طبيعي.
ساهم أمجد، كمدمن سابق مرّ بالتجربة ذاتها ونجح في التعافي، لسنوات في علاج مدمنين، عندما تولّى عملا بمشاركة مدمنين متعافين مثله، مهمتهم مساعدة من مرّوا بالأزمة ذاتها.
طرق العلاج ومواعيد الزيارة وجلسات المشورة والعلاج السلوكي الجمعي، كلها أدوات يمتلكها أمجد وزملاؤه لإنقاذ شخص آخر من الغرق في إدمانه. يساهم هؤلاء المعالجون في بناء مجتمع متناسق طارد للمواد المخدرة والسلوكيات المعقدة، مع ذلك يبقى المجتمع من حكومة ومواطنين، غير معنيين ولا مشجعين لتلك المبادرة وهذا العمل الإصلاحي. وتبدو الحكومة المصرية غائبة عن تقنين أوضاع هؤلاء الشباب المعالجين. المواطنون يتجنبون أو يتنصلون منهم بداعي أنهم حملة لفيروس لا شفاء منه، وهو معد ومؤذ لمن يقترب منهم، والحكومة لم تمتلك بعد الخطط المحكمة وتنفيذها في الواقع.
السبب وراء تأخر الاعتراف بالمدمنين السابقين كمعالجين مهمين هو نظرة المجتمع الذي يعاني قطاع فيه من عدم قدرة على الإدراك والاستيعاب
أعاد إعلان وزارة الصحة عن تخصيص شهادة تدريبية للمدمنين السابقين الذين يعملون في مجال العلاج من الإدمان كمرشدين، الجدل حول تقنين وضع الآلاف من المدمنين السابقين في مصر الذين يعملون في أكثر من 1000 مستشفى ومركز تأهيل دون تصريح أو مراقبة رسمية.
تنضم الشهادة الجديدة إلى أخريين، إحداهما خصصت لعلاج الإدمان للأطباء الحاصلين على شهادة تخصصية في الطب النفسي، والأخرى موجهة للأخصائيين النفسيين الحاصلين على شهادة جامعية في علم النفس. وتمنح شهادة للمتعافيين تحمل اسم تعافى من الإدمان، للاستعانة بهم كمرشدين للمرضى الجدد، ويستمر ذلك لمدة 6 أشهر بإجمالي 264 ساعة تدريبية.
بدا أن تلك هي أول خطوة رسمية تأخذها الحكومة منذ أكثر من 30 عاما مع ظهور أول شكل لمراكز التعافي التي يديرها متعافون يعملون في تأهيل المدمنين للعودة مرة أخرى للمجتمع. وهي فرصة جديدة للشباب ليعودوا إلى حياتهم ويستطيعون رسم مستقبلهم من جديد.
وتعد مصر دولة رائدة في هذا المجال، غير أن بعض الحكومات بدت عاجزة عن إيجاد صيغة قانونية لتلك المراكز والعاملين فيها ليكونوا نواة صالحة لحماية المدمنين، ومن قبلهم المجتمع الذي يفشل كثيرا في استيعاب المدمن وتقبّله.
وتنقسم أزمة تقنين وضع المدمنين السابقين إلى شقين. الأول البيروقراطية الإدارية وطول المسار في الإصلاح الهيكلي. والثاني دعم الحكومة للمدمنين وتركيز جهودهم في صالح التخلّص من صداع الإدمان الذي يؤرق مصر، باعتبارها من الدول المتقدمة في إدمان المخدرات وغيرها من السلوكيات غير سوية. كل جانب ينبع من أزمة عملاقة، ويرى البعض من الخبراء أن الحكومة تخشى منح شكل قانوني للمدمن السابق بما يخلق فجوة مجتمعية، في ظل عدم تقبّل كثيرين للمدمنين بعد علاجهم وثبوت استقامتهم ورغبتهم الجادة للانخراط مع الناس، ما يجعل الحكومة تتجنّب الدخول في مشاكل يمكن أن تسبب لها متاعب، مع قطاعات كثيرة في المجتمع.
مساحة تتسع الجميع
أحمد سمير، شاب ثلاثيني، احتفل بتخطيه العام السادس بلا مخدرات مؤخرا، يراه البعض بطلا، فقد استطاع التغلب على مرض صعب كان أشبه بدوامة تأخذ صاحبها لدائرة مفرغة تبدأ بقرار التوقف عن تناول المخدرات مرورا بالنجاح في ذلك، ثم الانتكاس والعودة للمربع صفر.
نجاح المدمن السابق يكمن في المثابرة وليس التخلص من المخدرات فقط، وتجاوز الأزمات الأسرية والشخصية التي تسبّبت في إدمانه وجعلته بطلا يفترض الافتخار به.
ينفي سمير حدوث ذلك، لأن المدمن السابق يظل موصوما طوال عمره بكونه “جرثومة تفسد المجتمع وكل من يقترب منه، ويجب عزله بعيدا عن الناس كي لا تصيب عدواه الآخرين ويلقي بهم مثلما ألقى بنفسه في قاع الإدمان”.
وقال لـ”العرب”، “الكثير من المجتمعات العربية ترفضنا وتعاملنا كمواطنين من الدرجة الثانية، ولا ترغب في عودتنا للاندماج، مع أن أغلب المدمنين السابقين، خاصة أولئك الذين يعملون في مجال تأهيل المدمنين يسعون إلى خدمة المجتمع من خلال تأهيل أصحاب السلوكيات غير السوية ليكونوا قوة تدعم المجتمع، بدلا من تحولهم لخارجين عن القانون يسعون إلى الهدم انتقاما منه”.
لم تكن النظرة التي قدمها سمير، مختلفة عن العشرات من الشباب المعالجين الذين يمتلكون تاريخا سابقا في الإدمان، واستطاعوا تحقيق قفزة كبيرة بالتخلّي عن المخدر وعدم العودة إليه.
تستمر معاناة المدمن، إن كان شابا عاقا لأسرته ومجتمعه أو شابا سويا استطاع أن يعود لطبيعته مرة أخرى وقرّر تخصيص جزء من حياته لمساعدة الآخرين ممن أصابهم الإدمان ويحتاجون من يأخذ بيدهم لتجاوزه لأنهم الأكثر قدرة على المساعدة.
استطاع مجموعة من الأخصائيين النفسيين ورجال دين مسيحيين الوصول لطريقة علاج سلوكية منذ حوالي تسعين عاما، نتج عنها الإعلان عن تشكيل المنظمة الأشهر في العالم لعلاج الإدمان المعروفة باسم “منظمة المدمن المجهول”. وتعتمد على تقديم المدمنين المتعافين المساعدة للآخرين ممن لا يرغبون العودة مجددا للإدمان.
يقوم المنظور الرئيسي للمنظمة على فكرة تبادل مشاعر المدمن، وظروفه الصعبة، الاجتماعية والروحية والنفسية والجسدية، مع مدمن آخر متعاف مر بالتجربة ذاتها ويعرف كيف يساعد في تخطيها.
ورغم أن الانتكاسة في الإدمان تبلغ نحو 50 بالمئة، لكن منظمات المدمنين المجهولين وبرامجهم العلاجية، وأبرزها العلاج الجمعي السلوكي، ترى أنها خطوة تضمن نسبة نجاح للمدمن في عدم الانتكاسة تبلغ حوالي 60 بالمئة.
النجاح والنقلات المهمة على مدار قرن من الزمان، والتوسع في انتشار الجمعيات، جعلها تصل لنحو 80 بالمئة من سكان الأرض، وأفرز منظمات مدمنين مجهولين لكل أنواع الإدمان.
وتيقن العالم أن في الجمع بين المدمنين المتعافين والساعين إلى ذلك هدفا يخدم الجميع. المدمن الذي يزيد من فرص نجاته من دوامة الإدمان، والمعالج أو المدمن السابق الذي بات دعمه جزءا من مساندته لنفسه بعدم العودة للإدمان، والمجتمع صاحب المكسب الوافر بضمان انخفاض نسبة المخالفين الذين تنعكس أمراضهم عليه.
أزمة محلية
قامت العديد من الدول بتقنين المراكز التأهيلية، وجرى دعمهم بتخصيص جمعيات ونقابات معترف بها لهم، لكن هناك دولا عربية ما زالت غارقة في أزمة وضع شكل قانوني لهذه الشريحة من المجتمع.
ويرجع استشاري علاج الإدمان محمد ربيع، أسباب تأخر مصر في إنهاء الأزمة من جذورها، إلى أسباب تتعلق بسياسة الحكومة الغارقة في البيروقراطية، والحاجة لوقت لحل أزماتها، ومنها تأخر البرلمان لأكثر من 20 عاما في إقرار قانون الصحة النفسية.
ويؤكد ربيع لـ”العرب”، أن مصر من الدول المتقدمة في احتضان برامج تأهيل الإدمان، ولديها خبرة طويلة لأكثر من نصف قرن في هذا الفضاء، وتعتبر مركزا لعلاج المدمنين العرب لتقدم أساليبها وتوفر الكفاءات القادرة على المساعدة، لكنها مازالت تسقط في امتحان دعم المعالجين.
الحكومة تخشى منح شكل قانوني للمدمن السابق بما يخلق فجوة مجتمعية، في ظل عدم تقبل كثيرين للمدمنين بعد علاجهم وثبوت استقامتهم
ويرى خبراء في علم الاجتماع، أن السبب وراء تأخر الاعتراف بالمدمنين السابقين كمعالجين مهمين هو نظرة المجتمع الذي يعاني قطاع فيه من عدم قدرة على الإدراك والاستيعاب، فضلا عن الجهل في التعامل مع المدمن، كأنه مجرم يصعب تقبله.
ويقع كثير من المدمنين السابقين في فخ اندماجهم في المجتمع بعد الشفاء، ولا يجدون فرص عمل، وترفضهم بعض الأسر في حالة التقدم للزواج، ناهيك عن النظرة العامة للمدمن بأنه “شخص فاقد للأهلية”.
سيد جبير، مدمن سابق، اعتاد التواجد في مقاه بعينها بوسط القاهرة، بعد أن تحولت مع الوقت لمركز بيع للحبوب المخدرة، وعمل في بيعها لفترات طويلة لكسب المال اللازم والإنفاق على إدمانه.
نجح سيد في التعافي بعدما تسبب إدمانه في إصابة والده بأزمة قلبية، أدت إلى وفاته حزنا عليه. وقتها قرر العلاج في إحدى المصحات الحكومية للإدمان، ثم انتقل لمركز تأهيل أقام فيه نحو عام ثم قرر البدء في العمل بالمركز نفسه كمعالج يساعد المدمنين على التوقف عن التعاطي.
وأوضح لـ”العرب” أن العمل كمعالج كان بغرض مساعدة الآخرين، ومع الوقت تحوّل إلى وظيفة ثابتة تدرّ دخلا شهريا له، وهو أمر يحتاجه كل مدمن سابق في وقت يرفض أرباب العمل قبول المتعافين في أي وظيفة خوفا منهم.
وأضاف في تلك الحالة يكون العمل كمعالج متعدد المكاسب، فهو مصدر دخل للفرد ووظيفة ذات عائد عام عبر مساعدة الآخرين وحماية المجتمع، والأهم المحافظة على المعالج نفسه من العودة للإدمان بعد أن باتت حياته قائمة على محاربته.
وتسببت الفجوة القانونية في عمل المعالجين والمراكز في وقوع كثير من المشكلات، أبرزها الإهمال في العلاج والمتابعة داخل المراكز، وقد تحدث وفيات لبعض المرضى، فضلا عن جهل كثير من المعالجين بطرق العلاج السليمة، ويستمد أغلبهم طرقهم من الخبرة السابقة، ونتجت تلك المعضلة عن غياب الرقابة الصحيحة.
وأشار عبدالسلام أيمن محروس، المحامي المختص بالقضايا النفسية والطبية، إلى أن عدم تقنين وضع مراكز تأهيل الإدمان جعلها تندرج تحت خانة الجمعيات الأهلية التي تعود رقابتها لوزارة الشؤون الاجتماعية، وهي جهة غير مختصة بالعمل الطبي والسلوكي، وكان من المفترض أن تعود الرقابة إلى وزارة الصحة.
ولفت في تصريحات لـ”العرب” إلى مخاطر غياب وزارة الصحة عن أداء دورها الرقابي، واستفحال الجهل في المراكز، وبات الكثير من المرضى يشتكون سوء طريقة العلاج والمعاملة وغياب الرقابة الطبية السليمة.