رثاء النفس بفكر معاصر

تفشي ظاهرة الانتحار يؤكد أننا نعيش شرخا عميقا في علاقاتنا ببعضنا البعض ولا أحد مباليا بمصير الآخر حتى إن كان أحد أفراد عائلته.
الثلاثاء 2018/07/10
لا أحد يُقدم على الموت دون محاولة لفت انتباه الآخرين إلى معاناته

“تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد * * * سوى السيف والرمح الردينيّ باكيا”، هكذا رثى مالك ابن الريب التميمي وهو شاعر من بني مازن نفسه عند دنو أجله.

فكرة رثاء النفس قديمة وتَفتحت عنها قرائح العديد من الشعراء فخلفوا قصائد لا حصر لها، ومن هذا المنطلق خامرتني فكرة محاولة كتابة رثاء معاصر للنفس بشكل مختلف عن الروائع والمفردات الشعرية التي نهلت من منابع فصاحة أهل شبه الجزيرة العربية ومن تلاهم من الشعراء.

لم أفكر في من دنا أجله أو ألمّ به مرض عضال بقدر ما ساورتني فكرة التفاعل مع ظاهرة الانتحار وما يسبقها من كتابة البعض من مرتكبيها لرسائل تكشف لذويهم أنهم ماتوا بكامل إرادتهم.

أثار منذ مدة شاب تونسي جدلا واسعا بعد انتحاره تاركا وصيّة مؤثّرة نشرها قبل وفاته على صفحته في فيسبوك. وتداول مغردون على نطاق واسع أجزاء من وصيته، واعتبر معلقون أن كلماته يجب أن تدرس.

الشاب المنتحر حرك سواكن الكثير ممن يعرفونه ومن لا يعرفونه وكشفت كلماته عن معاناة فئة من الشباب المثقف العاطل وأزاحت الستار عن فكر متقد وقلم سيال ونفس عافت وضع البلاد والعباد في ظل تفاقم الأوضاع يوما بعد يوم.

قبل رثاء النفس أولا هل من السهل وضع حد للحياة، في حين أغلب الناس يرهب من مجرد التفكير في الموت. ثانيا أي سواكن حركت بدواخل البعض هذا الكره الشديد للحياة، حتى فضل الموت واستسلم له؟

طرق الانتحار المتباينة تفصح عن مدى رغبة المنتحر الفعلية في الموت، فهناك الانتحار المكتمل الذي ينهي فيه الفرد حياته دون ترك أي مجال لمساعدته وإنقاذه

لو أن أحدا من هؤلاء المنتحرين فكر في كتابة رثاء ماذا سيكتب؟ عن نفسي أتخيل أن مجرد التفكير في القصاص من نفس عافت الحياة لن يولد إلا نقمة وحقدا كبيرين لمواجهة كل ما من شأنه أن يدفع الكرسي بعيدا ويشد الحبل إلى الآخر.

لا أظن أن المنتحر سيكتب شيئا لأنه بالنهاية وجد حلا للهروب من الواقع، لهذا فإنه لن يشغل نفسه بمن سيتألم لفقده ولا من سيمشي خلف جنازته ولا من سيحيي ذكراه.

وإن حصل وكتب فإنه لن يعترف بمكنوناته للخلق ولن يُسرّ أحدا بسرّ ما كان يكدر صفوه ودفعه قسرا إلى أحضان المجهول وغياهب الظلام، لن يصرخ تألمت من كذا وكذا لن يَخطّ حرفا يفضح معاناته النفسية وأرق لياليه المضني.

لعل رفضه الإفصاح عن سيل الأمور التي عقدت حول رقبته حبل الموت عائد بالأساس إلى نقمته على من حوله، الانتحار لا يأتي بغتة بل بعد عدة مؤشرات تظهر على المنتحر، قد يعمد إلى ترك أثر يدل على رغبته في الانتحار حتى يحظى بدعم ومنقذ لكن غالبا لا أحد يتفطن.

وتفصح طرق الانتحار المتباينة عن مدى رغبة المنتحر الفعلية في الموت، فهناك الانتحار المكتمل الذي ينهي فيه الفرد حياته دون ترك أي مجال لمساعدته وإنقاذه، وهناك محاولة الانتحار أو السلوك الانتحاري غير المؤدي إلى الموت وهو ما يمثل إيذاء للنفس مع الرغبة في إنهاء الحياة دون أن يؤدي ذلك إلى الموت، بل غالبا لفت انتباه الآخرين إلى معاناة الشخص الراغب في الموت.

وسواء أكان المنتحر راغبا في الموت أم لا فإن تفشي الظاهرة يؤكد أننا نعيش شرخا عميقا في علاقاتنا ببعضنا البعض ولا أحد مباليا بمصير الآخر حتى إن كان أحد أفراد عائلته، وهذا ما جعل الشاعر يقول “تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد”، لذلك ما جدوى ترك رسالة ترثي النفس وتزيح الستار عن أوجاع القلب ما دام المنتحر عجز في حياته عن إيجاد شخص ينتشله من ضياع نفسه الثكلى.

في أثينا القديمة، كان الشخص الذي ينتحر دون موافقة الدولة يُحرم من التكريم المتمثل في الدفن العادي. وكان هذا الشخص يُدفن وحده، على أطراف المدينة، دون شاهد قبر أو علامة. واليوم من ينتحر تكرمه الدولة ويصبح شعارا يحتذى به مترحمين عليه في الغداة والعشي.

21