دراسة أكاديمية تستجلي فضاءات "قاهرة" محمد علي

القاهرة- في كتابه “تجار القاهرة في عهد محمد علي”، يتعمق الباحث المصري رزق حسن نوري في تناول دور محمد علي (وصل إلى حكم مصر عام 1805) وظهوره على الساحة السياسية في مصر، وأثره الكبير الذي تركه على الاقتصاد المصري، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لم تكن الجماعات التجارية المصرية فقط هي التي تشعر بقلق عميق تجاه ممارسات الوالي الجديدة، بل إن دولا استعمارية كبرى شعرت بخطر متزايد على نفوذها وأسواقها الاقتصادية في الشرق العربي، نتيجة مزاحمة البضائع والتجارة المصرية لها فيها، فعمل قناصلها على تضخيم ما يقوم به الباشا من أعمال في هذا الإطار والتأثير على حكوماتهم للضغط عليه للعودة إلى الإنتاج الزراعي والتخلي عن تطوير الصناعة ومنافستهم في المجال التجاري.
ولقد سعى المؤلف في هذه الدراسة/ الكتاب الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2018، والتي أعدها أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، إلى الوقوف على مدى تأثير المتغيرات الجديدة اقتصاديا وسياسيا على طبقة التجار ونشاطهم في مدينة القاهرة، ومحاولة فهم مدى تأثير النظم المستحدثة كالاحتكار في التجارة داخليا أو خارجيا عليهم، وهل بالضرورة أدت إجراءات محمد علي التجارية إلى تراجع وتقلص دور التجار، وخاصة مع حلول الدولة في تسيير الحركة التجارية بدلا منهم.
ويوضح الباحث كيف أن سياسة التجار في المدينة لمواجهة الضغوط المتزايدة من الدولة للسيطرة على الموارد المالية في العاصمة، بسبب فرض المزيد من الضرائب أو الدخول في مجال الاستثمار التجاري، قد كان لها تأثير على التجار.
وكذلك تهتم الدراسة بتتبع شبكة المؤسسات التجارية في المدينة، وتحاول من خلال وثائق تلك الفترة الإجابة عن العديد من الإشكاليات ومنها: ما الدور الذي لعبته الدولة المركزية في الإشراف والتنظيم والمتابعة للنشاط التجاري في القاهرة؟ وما العلاقة بين رجال السلطة والتجار؟ وما الدور الذي لعبه التجار في تلك المرحلة؟ وما أنواع السلع التجارية فيها؟ وأين تتركز الأسواق؟ وما الأصول العرقية للتجار؟ وهل ثمة ما يميز حياتهم الاجتماعية عن الطبقات الأخرى؟
وقُسمت الدراسة إلى خمسة فصول يسبقها تمهيد وتعقبها خاتمة، وجاء التمهيد تحت عنوان “أوضاع التجار قبل عصر محمد علي” وتناولت فيه أوضاع تجار
القاهرة في فترات الاضطراب السياسي والاقتصادي أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وأثناء الاحتلال الفرنسي، وما آلت إليه أوضاعهم خلال الفترة التي سبقت وصول محمد علي لحكم البلاد بين عامي 1801 و1805، من خلال التركيز على علاقتهم بالسلطة الحاكمة.
وتناولت الدراسة “مدينة القاهرة والمشروع الاقتصادي لمحمد علي”، موقع القاهرة جغرافيا، والتطورات الإدارية والعمرانية التي طرأت عليها في تلك المرحلة، وإلقاء الضوء على المشروع الاقتصادي لمحمد علي زراعيا وصناعيا وتجاريا، وشبكة الانتشار التجاري، وتحليل معوقات المشروع التجاري المتمثلة في: الوضع التجاري الدولي، والعملة، وركود الإنتاج الزراعي والصناعي، وارتباك الإدارة الحكومية وفسادها.
وفي جانب من البحث تناول المؤلف “المؤسسات والأنشطة التجارية بالقاهرة”، فقد حاول فيه المؤلف رسم صورة للمؤسسات التجارية التي عمل من خلالها التجار، وهي: الوكالات والحوانيت والأسواق العامة، وهي ما يمكن تسميتها بالمؤسسات التجارية الأهلية، أما المؤسسات الحكومية فكانت مخازن الغلال والشون وديوان مبيع الأقمشة، وهي المؤسسات التي كان يتعامل معها عدد كبير من التجار، مع توضيح التوزيع المكاني للمؤسسات التجارية، وتناول الفصل السلع والأنشطة التجارية التي كان يتعامل فيها تجار المدينة.
ودرس الكتاب “الأصول العرقية وحدود النشاط التجاري لتجار القاهرة” وناقش فيه الباحث تأثيرات الأصول العرقية للتجار على نشاطهم وأنواع السلع التي عملوا بها، مع عرض ترجمة شخصية لبعض التجار القاهريين ومنهم محمد النيلي الدخاخني، ومحمود عزام الحطاب، وعرض لحدود نشاط تجار القاهرة الذي امتد إلى خارج القاهرة في الأقاليم والموانئ، وكذلك بعض التجار الذين امتد نشاطهم إلى خارج مصر في المغرب والشام والأستانة.
وفي ما أسمته الدراسة “المركز المالي ومصادر تمويل التجار وعلاقتهم بالسلطة” تناول المؤلف تركات التجار وثرواتهم، ثم تناول التعاملات المالية بين التجار (قراءة في الدعاوى والتركات)، ومصادر التمويل التجاري، التي انقسمت إلى: المضاربات والشركات والقروض، وعلاقة تجار القاهرة بالسلطة المركزية، التي تمثلت في سعي الحكومة لتفعيل الرقابة على التجار والأسواق ومتابعة الأسعار، وجهود الدولة في مقاومة الغش التجاري، وتقنين العقوبات لتطبيقها على المخالفين.
وقدّم رزق حسن نوري في الفصل الخامس “التجار في مجتمع القاهرة” عرضا لبيوت التجار معماريا ومن حيث الأثاث الموجود بها، وما ضمه التجار في بيوتهم من رقيق وعبيد وخدم، بالإضافة إلى المصاهرات بين التجار واحتفالات الزواج، كما تطرق لأوقاف التجار على أبنائهم وعلى الفقراء والمساجد والكتاتيب، وتناول الحالة العلمية والتعليمية للتجار بالمدينة وتشجيعهم لأولادهم للالتحاق بالكتاتيب والأزهر، وفي النهاية تناول الفصل دور التجار في التنمية الحضرية بمدينة القاهرة.