رجاء النقاش.. ناقد عربي أسس لمرحلة شعرية جديدة

لو نعلم أن ديك الجن كان من النقاد الذين فتحوا عوالم المتنبي الشعرية على تخوم أخرى، وأن محمود درويش كان يستضيء من آراء نقاد كثيرين مثل صبحي حديدي، نفهم العلاقة الوثيقة بين النقد والأدب، لكن الكلام على الكلام صعب، كما كان يردد أبو حيان التوحيدي. غير أن النص النقدي أيضا ضرب من الإبداع الصعب الذي يستحق مواكبة بدوره.
في كتابه “نقد الشعر عند رجاء النقاش” يقدم رجب أبوالعلا رؤيته النقدية لكتابة النقد عند رجاء النقاش، معتبرا أن النقاش سلك طريق النقد الأدبي تأكيدًا منه على الرغبة في إعادة نشر الثقافة من خلال إحياء العلاقة المفقودة بين الجمهور وبين عالم الثقافة والفن والأدب؛ ليتخطى المجتمع الأسوار والحواجز التي تحول بينه وبين النهضة والفهم الصحيح.
وانطلاقًا من أهمية الموهبة، وإيمانًا بدورها الفعال في التقدم الإنساني اهتم النقاش بها وعدها الأساس الأول الذي تنبني عليه شاعرية الشاعر، مؤكدا أن خلاصة ما يهدف إليه هو خلق صداقة حميمة بين الشباب وبين عالم الثقافة والأدب والفن، وأنه على يقين من أن تعميق الميول الثقافية للإنسان في مجتمعنا هو هدف من أشرف الأهداف؛ لأن انتشار الثقافة بصورة صحيحة يعني أن مجتمعنا يستطيع أن يتخطى الكثير من الأسوار والعقبات التي تحول بينه وبين النهضة والتقدم والفهم الصحيح لهذا العصر الصعب الذي نعيش فيه، وذلك يعني أن انتشار الأدب يساوي انتشار الثقافة والفهم الصحيح لدور الإنسان في الحياة، ولذلك اهتم رجاء النقاش بالأدب الهادف الذي أسهم في ارتفاع الذوق وارتقاء السلوك.
ويرى المؤلف أن تقديم الكتاب النقدي أو شرحه من المهام التي تحتاج إلى ثقافة عميقة وخبرة واسعة في مجال الأدب والنقد، إذ يهدف من خلال نقاش كتب النقد إلى أن يضع فائدة الكتاب وهدف المؤلف كجزء فاعل في الحركة الثقافية العربية.
توقف الكاتب أمام رؤية النقاش لكتاب نسيم مجلي عن أمل دنقل بعنوان “أمل دنقل شاعر الرفض”، أو “أمل دنقل أمير شعراء الرفض”، ويتوقف أمام ظروف نشر الكتاب وكيف خرج تحت الضغط مشوه الخلقة رديء الطباعة وناقصا، كما توقف أمام مميزات الكتاب وخاصة الجانب السياسي في شعر دنقل، دون إغفال الجوانب الفنية التي يعتمد عليها في بناء قصائده، راصدًا ملامح شخصية الشاعر الداخلية والشعرية، فهو يرسم صورة للشاعر، ويبين تميزه بالنغمة الرافضة الحادة، واعتماده في أغلب قصائده على الموروث التاريخي والشعبي والحوار والأسطورة مما يثري القصيدة ويبتعد بها عن سطحية التناول.
ولم يغفل المؤلف عن إبراز جوانب القصور في الكتاب ومنها: حاجته إلى فصلين كبيرين عن حياة الشاعر ومصادره الثقافية، وإهمال المؤلف للأثر القرآني في شعر أمل، والذي ربما يكون عن غير قصد، فالمؤلف لم يقرأ القرآن كقيمة أدبية وهو مأخذ يأخذه النقاش عليه وهذا الجهد الذي يعتمد على التفسير والتوضيح جهد عادي يقوم به أي ناقد يمتلك القدرة التي يتغلغل بها داخل سطور الكتاب.
يكشف أبوالعلا عن تأثير النقاش على الشعر الفلسطيني، فقد كانت الكتابة عن شعر المقاومة الفلسطينية مجهولة، ففتح النقاش هذا الباب أمام الدراسات التي أتت بعد ذلك، فهو أول من قدم هؤلاء الشعراء ويعد هذا أول اكتشاف مبكر لحركة الشعر الفلسطيني، معتبرا أنه في هذه الدراسة أقرب إلى المنهج العلمي المنظم، حيث يتتبع الظاهرة من البداية حتى نهايتها ويكشف عنها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تدل على وعيه القومي والحسي في تقديم هذه الحركة، خاصة في أواخر الستينات من القرن الماضي وبالتحديد سنة 1968، فقد دب اليأس وشاع الإحباط كرد فعل على الهزيمة وإذا بهذه الحركة كأنها حركة الفدائيين الذين يملكون الخلاص والنصر في أي وقت إذا استمر الجهد.
يقول الكاتب ”إن ناقدنا قد سلك منهجًا علميًا رصد من خلاله ضرورة الحركة الشعرية في فلسطين وامتدادها إلى محمود درويش الذي أخذ عدة مراحل في طريقه إلى النضج الفني، ومحاكمة الشاعر محاكمة فنية كشفت عن بعض عيوب هذه المراحل، متتبعًا في ذلك إنتاج الشاعر ومواقفه السياسية ودفاعه عنها وعن غيره من أبناء جيله، وتحويل القضايا إلى مواقف عامة، واختتم الدراسة بأثر هذه الحركة على الأدب العربي”.
ويذكر المؤلف أن رجاء النقاش قمة وقامة من قامات الفكر والثقافة في الوطن العربي، ينتمي في بنيته الثقافية إلى جيل العظماء، غلب عليه الفكر الإنساني، فتصدر الإنسان أغلفة معظم مؤلفاته.
وتعتبر الدراسة التي بين أيدينا مصدرا مهما يكشف جانبًا من جوانب الإبداع النقدي لدى رجاء النقاش في فن الشعر، ويحاور الكتاب فكر النقاش ليصل إلى مفهوم الشعر لديه، ودوره الوظيفي وأثره في المتلقي، وفي الحياة من حوله، ثم محاولة تحديد القضايا والمصطلحات النقدية التي غلبت على فكر النقاش، وإلى أي مدى سيطرت بعض المناهج، والمدارس النقدية على امتداد الدرس النقدي للشعر عنده.
الجدير بالذكر أن كتاب “نقد الشعر عند رجاء النقاش”، لمؤلفه رجب أبوالعلا صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.