أميركا وتغيير قواعد الاشتباك بفلسطين

 المقاومة الفلسطينية نجحت رغم تخبط مشروعها السياسي، وقبله الصمود الشعبي الواسع في بعث رسالة شديدة القوة لأميركا ولأوهام التجبر الصهيوني، وأوقفت محاولات تغيير قواعد الاشتباك.
الخميس 2018/06/07
الصمود الشعبي العربي لن يوقف المخططات الصهيونية الأميركية

 تتسارع الأحداث في منطقتنا العربية وتتابع وراء بعضها بشكل حاد، خاصة في الملف الفلسطيني الذي تريد أميركا/ دونالد ترامب تصفيته لصالح الصهيونية وإسرائيل بكل صفاقة وتبجح، تحت عنوان ما سماه ترامب “صفقة القرن”.

بعد إعلان ترامب تنفيذ القرار الأميركي القديم بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، واختياره يوم 14 مايو الماضي تواكبا مع الذكرى السبعين لإعلان دولة إسرائيل في اليوم نفسه من عام 1948، رد عليه الصمود الشعبي الفلسطيني بالإعلان عن مسيرات العودة الكبرى كل يوم الجمعة، انطلاقا من الجمعة 30 مارس الذي يواكب ذكرى يوم الأرض الفلسطيني الذي يعود لعام 1976، عندما أعلن الاحتلال عن قانون لسرقة الأراضي الفلسطينية ومصادرتها.

وظلت مسيرات العودة الفلسطينية تتصاعد كل جمعة في مواجهة القمع واستهداف المتظاهرين العزل، حتى وصلت لذروتها يوم 14 مايو، عندما تقابل في فلسطين مشهدين متباينين للغاية وجها لوجه، الأول احتفال ضخم في القدس بحضور إيفانكا ابنة ترامب لحضور احتفالية نقل السفارة، والثاني مواجهات دامية على حدود قطاع غزة بين القوة الصهيونية المفرطة والمتظاهرين العزل.

تجاهلت أميركا كل مشاهد القتل واستهداف الأطفال والعجزة والعزل، وأعلن ترامب عن قرب طرحه لتفاصيل صفقة القرن المزعومة، وكان الصمود الشعبي الفلسطيني قد طور أسلوب الطائرات الورقية الحارقة، ردا على عمليات الاستهداف والقتل المتوالية.

لكن اللحظة الحاسمة في محاولة إسرائيل وأميركا تغيير قواعد الاشتباك السياسية والعسكرية تمهيدا لفرض الأمر الواقع بالصفقة المزعومة، كانت الأسبوع قبل الماضي بفعل عسكري إسرائيلي وفعل سياسي أميركي في مجلس الأمن.

حيث قامت إسرائيل باستهداف رجال المقاومة التابعة لحركتي حماس والجهاد في قطاع غزة، واستشهد أربعة من كتائب القسّام وسرايا القدس في الاستهداف الإسرائيلي، الذي كان محاولة لجس النبض واستكشاف رد فعل المقاومة الفلسطينية تجاه استهداف رجالها، ومحاولة تغيير قواعد الاشتباك وعدم الاعتداء المتبادل التي استقرت بين الجانبين منذ الحرب الأخيرة على غزة عام 2014.

وبالطبع فهم رجال المقاومة الفلسطينية الرسالة الإسرائيلية وعملية جس النبض تمهيدا لصفقة القرن المزعومة، وكان ردهم حاسما حيث أمطروا المستوطنات والمدن الصهيونية المجاورة لقطاع غزة بوابل من الصواريخ والقذائف قصيرة المدى، وضعت القيادة الإسرائيلية في حرج بالغ وأدخلت المستوطنين للملاجئ العسكرية، ليخرج بعضهم هناك بدعوات لإعادة احتلال غزة والرد بقسوة مفرطة، وكأن المسألة تمهيدا ومجرد نقلة في رقعة الشطرنج.

هنا جاء الدور الأميركي الذي يسعى لتغيير قواعد الاشتباك السياسي تمهيدا للصفقة المزعومة في الأمم المتحدة، حيث تقدمت مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن نيكي هالي بطلب لإدانة ما أسمته “الهجوم الصاروخي للفصائل الفلسطينية على إسرائيل”، وقالت إن “قذائف هاون أطلقها نشطاء فلسطينيون ضربت البنية التحتية المدنية بما في ذلك روضة الأطفال”. وإنه “يجب أن يكون مجلس الأمن غاضبا ويستجيب لهذه النوبة الأخيرة من العنف التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين، ويجب أن تخضع القيادة الفلسطينية للمساءلة عما تسمح لهم بحدوثه في غزة”.

رسالة شديدة القوة لأميركا ولأوهام الهيمنة والتجبر الصهيوني
رسالة شديدة القوة لأميركا ولأوهام الهيمنة والتجبر الصهيوني

ولكن الكويت بصفتها العضو غير الدائم في مجلس الأمن ممثلة عن الدول العربية، رفضت الموافقة على الطلب الأميركي، في حين تسعى في الوقت نفسه لطرح مشروع قرار لتوفير نوع من الحماية لأهل غزة، أو على الأقل إبراز الموقف الأميركى المنحاز في حالة اعتراض مندوبة الولايات المتحدة عليه، وسبق لأميركا أن أوقفت مشروعي قرار للإعلان عن “قلق” مجلس الأمن إزاء أعمال العنف في قطاع غزة خلال الفترة الماضية، لكن هناك من يتوقع أن يتخذ الفلسطينيون خطوة احترازية بتصعيد الأمر والتوجه إلى الجمعية العامة في حال فشل مشروع القرار الكويتي.

والشاهد هنا هو أن انتقال أميركا من حالة رد فعل ومجرد إفشال مشاريع إدانة العنصرية واستخدام القوة العسكرية المفرطة ضد المدنيين الفلسطينيين في أروقة الأمم المتحدة، وتحولها إلى محاولة تغيير أساسيات اللعبة السياسية وقواعد اشتباكها، بأن تبادر بطرح مشاريع لإدانة الفلسطينيين وحقهم في المقاومة والرد دفاعا عن النفس في مجلس الأمن.

وإذا وضعا محاولة جس النبض العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، إلى جوار تبني أميركا إدانة الفلسطينيين سياسيا في مجلس الأمن، في ظل مجموعة الأحداث المتوالية السابقة وإعلان ترامب عن قرب الكشف عن تفاصيل صفقة القرن المزعومة؛ بجانب الانتهاكات الإسرائيلية المتعددة مؤخرا للمسجد الأقصى، لتبينا بعضا ما هو قادم في الطريق.

نجحت المقاومة الفلسطينية رغم تخبط مشروعها السياسي ضمن التناقضات التاريخية الموجودة في المنطقة، وقبلها الصمود الشعبي الواسع في بعث رسالة شديدة القوة لأميركا ولأوهام الهيمنة والتجبر الصهيوني، وأوقفت محاولات تغيير قواعد الاشتباك السياسي والعسكري، ورغم أن المنطقة العربية تمر بمرحلة مشابهة تماما لبدايات القرن الماضي التي شهدت تفاهمات سايكس- بيكو وتقسيم البلاد العربية لصالح المخططات الاستعمارية الغربية، إلا أن هذه المرة هناك شيء مختلف وهو مدى الوعي الشعبي وقدرة الشعوب العربية على تجاوز ضعف الأنظمة السياسية بصمودها واستعدادها للتضحية، خاصة في ظل كمون الموجة القادمة من الثورة العربية الكبرى تحت الردم.

لكن هذا الصمود الشعبي العربي لن يوقف المخططات الصهيونية الأميركية عن المضي قدما في اتجاه طرح تفاصيل صفقة القرن المزعومة، ومحاولة تنفيذها على أرض الواقع واختبار أفكار ترامب عن قهر الشعوب علانية وإعلان سيادة الإمبراطورية الأميركية.

على المدى الطويل أخبرنا التاريخ أن كل إمبراطورية دخلت في مرحلة استعراض القوة والهيمنة الفارغة على البشر، كان ذلك مؤشرا على قرب اضمحلالها وزوال ملكها، وليست الإمبراطورية الأميركية ببعيدة عن هذا السياق. وفي الوقت نفسه فإن حالة الضعف العربية التي تمر بها الأنظمة هي نهاية دورة حضارية تجاوزت مئتي عام الآن منذ ظهور الاستعمار الغربي الحديث وأفول العصور الوسطى التي سيطر فيها الشرق العربي لحد بعيد.

8