الدروس السياسية المستفادة من انتصار أكتوبر

السؤال الذي يطرح دائما هو ماذا لو أديرت المفاوضات بعد الحرب بمفهوم الثبات على الموقف السياسي القديم، والضغط للحصول على أكبر المكاسب العربية مرحليا؟
الأربعاء 2018/10/10
الولايات المتحدة مع سياسة تفريغ النموذج المصري باستمرار

45 عاما مرت على انتصار أكتوبر 1973، وهو الانتصار الذي وضع مصر في مفترق الطرق التي أفضت إلى ما هي فيه الآن، بمعنى أنه كان انتصارا عسكريا مبهرا للجندي المصري، لم يتم توظيفه وإدارته سياسيا كما ينبغي. فرغم أنه قد سبقته هزيمة 1967 التي صحبتها حالة من الرفض وانتظار رد الاعتبار للشخصية المصرية المعتزة بذاتها، في حين خلقت الإدارة السياسية للنصر العسكري في أكتوبر أزمة انعكست على الشخصية المصرية، وأفرزت صراعا في منظومة القيم تعاني منه مصر حتى اللحظة، تحديدا في ما يخص تصور المستقبل وتماسك الوجدان القومي الجماعي.

ويبدو أننا بعد 45 عاما ما زلنا عند مفترق الطرق نفسه، عندما اختار الرئيس أنور السادات الجانب الأميركي وقبل بفتات المائدة التي ألقاها له، وتأتي هذه الذكرى الخامسة والأربعون لانتصار أكتوبر والرئيس عبدالفتاح السيسي قد عاد لتوه من اجتماعات انعقاد الدورة 73 للأمم المتحدة، والتي شهدت ذروة عنفوان الإمبراطورية الأميركية الجديدة بخطاب دونالد ترامب بما تضمنه من مفردات الغطرسة والهيمنة على العالم.

الملفتُ للانتباه في هذه الدورة هدوء الصين وثقتها في نفسها، حين رفضت السياسات الأميركية وواجهت الضغوط التجارية الأميركية بلهجة توبيخ ملحوظة على لسان وزير خارجيتها، ولعل الصين تمثل أبرز الدول نجاحا حتى الآن في خلق بدائل عن الخضوع للولايات المتحدة بمواجهتها.

يقوم البديل الصيني الواثق من نفسه وقدراته، على بناء نموذج اقتصاد رأسمالي خاص، وبناء منظومة علاقات دولية متينة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، تدعمها شبكة طرق ومواصلات مزدهرة، من خلال طريق الحرير البحري والبري الجديد.

وقفت الصين في وجه الولايات المتحدة لأنها أنتجت البديل لنظام الاقتصاد الغربي في كل شيء، ربما على طريقة مشابهة له لحد بعيد لكنه نظام مواز وقائم بذاته، وبالتالي تستطيع أن تدير وجودا موازيا في العالم لا يتأثر بضغوط ترامب والإمبراطورية الأميركية المتغطرسة.

لكن إلى أين قادت سياسة السادات مصر في الخضوع للولايات المتحدة، والتحول الاقتصادي من فكرة الإنتاج والتصنيع المتكامل، إلى فكرة السمسرة والعمولات والاستيراد وتغيير نمط الشخصية المصرية نحو الاستهلاك.

السؤال الذي يطرح دائما هو ماذا لو أديرت المفاوضات بعد الحرب بمفهوم الثبات على الموقف السياسي القديم، والضغط للحصول على أكبر المكاسب العربية مرحليا؟ بكل يسر كان يمكن المناورة السياسية لدفع المفاوضات في اتجاه القانون الدولي والنفس الطويل وتبريد الملف، ومن جهة أخرى التأكيد على استقلالية النموذج المصري وعروبته واستثمار الانتصار العسكري فعلا، لإعادة بعث الشخصية العربية والمصرية وخلقها.

كان هذا أفضل سيناريوهات الإدارة السياسية البديلة لانتصار أكتوبر العسكري، وتوظيفه حضاريا كنقطة انطلاق ومحطة مفصلية للتأكيد على المركز المصري ودوره عربيا، لكن السادات كان قصير النفس سياسيا يميل للدراما والمواقف الاستعراضية الرنانة، فاتخذ انتصار أكتوبر العسكري وسيلة للارتماء في حضن الولايات المتحدة، وكسر عزلة الدولة الصهيونية وتمرير وجودها دوليا، بالإضافة إلى الحياة داخل نطاق السيطرة الذي تحدده واشنطن لمصر في العموم، حين حول الانتصار العسكري لهزيمة سياسية وحضارية.

مصر الآن تكاد تقف عند مفترق الطرق نفسه، وتبحث لنفسها عن بدائل استشراف المستقبل وسبل النهضة. انتصار الذات الجماعية المصرية وحلمها بالنهضة مجددا خلقته حالة 25 يناير 2011 في وجدان الشعب، وأيقظت شعورا جماعيا بالعزة كالذي أيقظه انتصار أكتوبر. فالشخصية القومية تتحرك وفق موجات للتمثل والتعبير عن الذات عبر تاريخها، في مواقف مفصلية مثل تلك، لكن كيف استفادت البلاد، حتى الآن، من حالة اليقظة واستعادة الذات الجماعية مرة أخرى في العام 2011 بالمقارنة بـالعام 1973؟

يبدو أن سيناريو الغواية الأميركي حاضر في المشهد بقوة أيضا في حالة 2011 كما كان في حالة 1973. الولايات المتحدة تتدخل فقط لتفريغ تشكل بديل سياسي له توجه سينافس هيمنتها في المنطقة، وتعمل لتوجيه المسار ليذهب بعضه قوة بعضه. الولايات المتحدة ليست مع الأحزاب السياسية التي تمتلك طموحا في الدور السياسي الواسع، وليست مع الإدارة السياسية المصرية ورغبتها في تثبيت أركان دولتها، وليست مع القوى الشبابية الاجتماعية الجديدة وحلمها بإنتاج دولة مصرية جديدة ومغايرة تماما للسائد.

يمكن لمصر أن تقتدي بالنموذج الصيني، فتسعى داخليا لتفعيل موارد البلاد والعودة للتصنيع والزراعة، وخارجيا عبر الاعتماد على الحاضنة العربية والأفريقية

الولايات المتحدة مع سياسة تفريغ النموذج المصري باستمرار، والحرص على عدم انتظامه كقلب لأمته العربية، وعمله كحاضنة ومركز لنهضته في مواجهة وجودها ودعمها للدولة الصهيونية في المنطقة، لكن ما البديل للإدارة السياسية المصرية الحالية في علاقتها بالولايات المتحدة، وهل يمكن تجاوز أخطاء الإدارة السياسية لانتصار أكتوبر 1973؟

هناك ثلاثة محددات يمكن اعتبارها عوامل نهضة النموذج المصري في ظل وجود قوة مهيمنة عالمية كبرى تمثلها الولايات المتحدة.

المحدد الأول؛ أن السادات كان قصير النفس وورط مصر في مسار متعجل، لذا يجب على الإدارة السياسية المصرية أن تفصل بين وجودها الراهن وبين الوجود طويل المدى للمشروع المصري عامة، بمعنى أنه لا سبيل للانتصار السريع على الولايات المتحدة، وذلك سيتطلب عشرات السنين من العمل، لكن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة.

ثانيا: النموذج الصيني يبدو ناجحا تكتيكيا في الإدارة السياسية والدولية لوجوده حتى الآن، عبر بناء قاعدة صناعية مالية مستقلة توسع من حاضنتها الجغرافية شيئا فشيئا، وهو ما يمكن لمصر أن تقتدي به، فتسعى داخليا لتفعيل موارد البلاد والعودة للتصنيع والزراعة، وخارجيا عبر الاعتماد على الحاضنة العربية والأفريقية، واستعادتهما من النفوذ الأميركي والصهيوني رويدا رويدا.

ثالثا: كما كان التوظيف السياسي للانتصار العسكري في أكتوبر 1973 هو كعب أخيل في عقلية السادات وتصوره السياسي، تظل المعضلة أمام الإدارة السياسية المصرية الحالية هي التوظيف السياسي لنهضة الذات المصرية في يناير 2011، وحتى الآن لم تتوصل الإدارة السياسية لنظرية فعالة في توظيف هذه النهضة القومية لصالح البلاد. وظفها البعض في ظل الاستقطاب السياسي والصراع التاريخي بين البنى السياسية والاجتماعية المصرية التقليدية ليحقق أهدافه، لكن الإدارة السياسية لم تعتمد حتى الآن مفهوما يقوم على التوظيف الجاد لهذه الحالة، عبر منح كوادرها الفرصة الحقيقية لتشكيل نموذج جديد في المؤسسات المصرية المختلفة، والعمل الحر وفق بروتوكول منظم وحاكم، يهدف للصالح العام المجرد من كل قيود السيطرة.

تظل هذه العوامل الثلاثة صالحة لنهضة مصر وشروطا لاستشراف حلمها القديم والاستفادة الحضارية من دروس حرب أكتوبر 1973 في لحظتنا الراهنة، حيث العوامل الثلاثة للاستفادة من الدرس والنهضة هي؛ سياسة النفس الطويل والفصل بين الوجود الراهن والوجود طويل المدى، السعي للاستقلال الاقتصادي وتفعيل الموارد في الحاضنة الجغرافية (الصين نموذجا)، وأخيرا حسن التوظيف السياسي للحظات المد القومي (1973 و2011 نموذجا).

9