هل العرب في حاجة إلى سردية كبرى

يبدو المشهد الثقافي العربي في حاجة إلى مراجعة جريئة وشجاعة؛ هناك تشوّه ما في تبني أطروحات ما بعد الحداثة وعدم القدرة على وضعها في سياقها التاريخي.
الأحد 2018/11/25
المتن الغربي كان ولا يزال دائما يعمل وفق سردية كبرى (لوحة الفنان بهرام حاجو)

تستدعي مجمل الأحداث والأزمات الكبرى التي تتعرض لها منطقتنا العربية حاليا؛ مراجعة واحدة من أبرز الأوهام التي يتمّ الترويج لها منذ فترة بين الأوساط الثقافية والأكاديمية والسياسية العربية، ألا وهي خرافة نهاية السرديات الكبرى والحياة دون فكرة كبيرة جامعة للبلاد العربية تواجه بها العالم وتتحرك من خلالها، والحقيقة أنه بينما كانت أبنية الهامش الأوروبي تصدر لنا طنطنات ما بعد الحداثة والتفكيك والتشيؤ، وتتلقاها النخب العربية النمطية لترددها كتلميذ الفصل البليد، كان المتن الغربي يعمل دائما وفق سردية كبرى يؤسس لها ويرعاها، ويتجاوزها لغيرها كلما انتهى دورها.

إن ما يتعرض له وطننا العربي في فلسطين وفي سوريا ومؤخرا في السعودية، وقبلا في العراق ولبنان واليمن والصومال وغيرها، يدعونا إلى مراجعة الحسابات والتدقيق بحثا عن موضع الخطأ في النموذج العربي وإدارته السياسية، التي لم تفلح حتى الآن في الوصول إلى خارطة طريق واضحة للمستقبل واستشراف سبل الوصول إليه.

المتن الغربي كان ولا يزال دائما يعمل وفق سردية كبرى، تضعها مراكز الأبحاث ورجال الفكر هناك والمدهش أنهم يعلنون عنها ولا يدارونها، فبينما كان الهامش الغربي يصدر لنا أفكار ما بعد الحداثة وموت الأفكار الكبرى المحرّكة للأمم منذ نهاية السبعينات والثمانينات، كان المتن الغربي يقود سردية كبرى في ظل الحرب الباردة، تقوم على هدف تفكيك الاتحاد السوفييتي وفرض سيادة مبادئ النموذج الأميركي وترويجها عالميا في سردية كبرى، وفي الوقت نفسه كانت الجامعة الأميركية بالقاهرة ترعى المشاريع الثقافية والأدبية التي تؤسس لثقافة الهامش والتخلي عن الجماعة والسرديات العربية الكبرى، كما حدث في تبنيها لما يسمّى شعر السبعينات في مصر وردّته على أفكار المرحلة القومية، دون أن يطرح سردية بديلة كبرى.

يبدو المشهد الثقافي العربي في حاجة إلى مراجعة جريئة وشجاعة؛ هناك تشوّه ما في تبني أطروحات ما بعد الحداثة وعدم القدرة على وضعها في سياقها التاريخي، بالإضافة إلى رصد أهم الأفكار في تناول النموذج الغربي للمسألة؛ وهي فصله بين هامش يسمح من خلاله بوجود أفكار فرعية أيّا كانت، وبين متن يحرص دائما على وجود سردية كبرى تحكمه ولا يتخلى عنها أبدا.

فعلى سبيل المثال؛ بعد نهاية السردية الكبرى للحرب الباردة؛ ظهرت السردية الكبرى للعولمة وفرض النمط الثقافي الأميركي، ثم دخلنا في سردية جديدة الآن أقرب للسردية الإمبراطورية في النموذج الأميركي وتنفيذ المخططات علانية بكل صلف وغرور، والمشكلة أن الحالة العربية بشكلها الراهن يعتبرها الأميركيون فأر التجارب المتاح والرخيص، وأسهل الملفات الممكن أن تطبّق عليها نظرية السردية الإمبراطورية.

ليصبح أمام العرب خياران لا ثالث لهما في واقع الأمر؛ إما استمرار الأمر على ما هو عليه، وفي هذه الحالة على أفضل تقدير ستتمكن أميركا من كبح قدرات المشهد العربي وتجميدها في فلسطين والعراق وكذلك في سوريا والسعودية واليمن ولبنان؛ أما من جهة التقديرات السيّئة فقد تتمكن أميركا من إزاحة القيادة الفلسطينية الحالية، واستبدالها بمن هو أكثر قبولا مع سرديتها الإمبراطورية الجديدة لصالح إسرائيل وفرض هيمنتها على المنطقة، وقد تفجّر الفتنة الطائفية في لبنان من خلال معادلة سياسية غير مستقرة، وقد تسعى للعودة إلى العراق، وربما المزيد من الابتزاز والتنازلات من النظام السعودي.

أما الخيار الثاني أمام العرب؛ فهو البحث عن سردية كبرى جديدة تواجه بها العالم وتبحث من خلالها عن ذاتها، لكن الخيارات أمام العرب محدودة في هذه الحالة، فبداية يجب على السردية الكبرى الجديدة أن تحقق اشتراطات: تجاوز الأبنية السياسية لدولة ما بعد الاستقلال، وشعاراتها السائدة منذ القرن الماضي في البلاد العربية. وعليها كذلك أن تتجاوز تقاليد الأيديولوجيات القديمة وبقاياها التي أتقنت العويل والبكاء على الحال، ثم عليها أن تبحث عن نقطة ارتكاز أو لحظة مفصلية تبني عليها سرديتها الكبرى الجديدة.

وليس من الصعوبة استكشاف احتمالات الإجابة بحثا عن السردية العربية الكبرى الجديدة في ظل المحددات الثلاثة السابقة؛ لكنها ستطرح أزمة جديدة بدورها، الإجابة تكمن في مشروع التغيير التحتي أو الثورات الشعبية العربية في مطلع هذا العقد من القرن الحادي والعشرين، لكن الأزمة ستكون عدم قدرة دعاة هذا المشروع على الانتظام في أبينة اجتماعية وسياسية قوية في مواجهة الأنظمة القديمة وأيديولوجيا المعارضة في آن واحد، لكن بتجاوز هذه النقطة التي سيختبر التاريخ سبل الخروج منها في ما بعد، عبر تباديله وتوافيقه المستمرة، يبقى السؤال ماذا ستقدم السردية العربية الكبرى التي ستستند للحظة المفصلية التي خرجت فيها الجماهير وعبّرت عن عجز الأبنية السياسية القديمة عن التعبير عن مستودع هويتها والتزاماتها؟

هذه السردية العربية الكبرى ستحمل مشروعا حضاريا بديلا لنهضة الذات العربية واستعادة ما لها وفق مستودع هويتها العريض والمتنوع، لذا على المستوى الداخلي ستخلق مشتركات جديدة تتجاوز عقد الماضي ونعرات التعالي بين الشعوب العربية، التي تأججت بسبب العجز السياسي والاقتصادي وفشل سرديات العرب الكبرى في المركز مصر/عبدالناصر، وفي العراق القوي والشام أيضا، وستتطلب تلك السردية أن تتحول ليبيا إلى مركز حضاري خصوصا على ساحل المتوسط وتعميره بهدف ربط المغرب العربي في تونس والجزائر والمغرب بمصر ومن ثم بما ورائها، كما ستتطلب تلك السردية الكبرى تحويل السودان إلى مركز حضاري وبوابة لاستعادة الامتداد الأفريقي وهمزة وصل تجمع ولا تفرق، كما أن السردية العربية الكبرى الجديدة ستتطلب أن يندمج الخليج وشبه الجزيرة العربية في علاقات بينية قويّة بالعراق والشام، ومع مصر والمغرب العربي، تقوم ببناء مشتركات جديدة وفق هوية وثقافة أكثر تجانسا واحتكاكا في أنماط الحياة.

لكن طالما استمرت الأبنية السياسية السائدة في التعاطي مع سردية الثورات العربية الكبرى في مطلع هذا العقد، ودعاتها المستقلون غير المنظمين بمفهوم القطيعة والعداء، فإننا سنظل نراوح في المكان محلك سر، وسوف نصبح مرتعا نموذجيا لتطبق علينا أميركا نموذجها الإمبراطوري في سرديتها الكبرى، ولن تتمكن الأبنية السياسية القديمة من الوصول إلى نقطة مفصلية بديلة تصلح لبناء سردية كبرى تواجه بها الاستخفاف الأميركي تجاه النموذج العربي، وستلجأ إلى تكتيكات إدارة التناقضات وخلقها داخليا وخارجيا، بما لن يكون كافيا لردع المخططات الأميركية لتطبيق سرديتها الإمبراطورية على الحالة العربية.

أعتقد أنه طالما بقيت النخب العربية بعيدة عن البحث عن سردية كبرى تُجمعها وتنظر في استشراف معالمها وتجاوز أبنية الماضي القديم بها، فإننا سنظل نؤكل تباعا بلدا تلو آخر دون رادع، وسنظل نسأل الأسئلة الصغيرة ونتوه في حيرتها الخادعة، البلاد العربية في حاجة إلى نهضة معرفية وفكرية غير نمطية، وخارج الأفكار السائدة المستقاة من مشاريع الهامش الثقافي الغربي وتعاليه المعرفي الزائف.

10