براءة شيطان

“إِذا جاء رمضان سلسلت الشّياطين”.. كثيرا ما يقع التشكيك في صحة هذا الحديث النبوي أو الاختلاف في تفسيره بسبب انتشار العديد من السلوكيات المنافية للمبادئ التي جاء بها الشهر الفضيل.
ولا أدري لماذا يرجح البعض ضعف الحديث أو عدم صحته أو يختلفون في تأويله؟ والحال أن رهطا منهم يحمل بين جنبيه قلبا رخاميا ونفسا خبيثة تعلق عاداتها السيئة على الصوم.
ولا يتوانى فرد من الأفراد عن صب جام غضبه على من حوله لأتفه الأسباب والمسببات حتى يختم ثوراته بالجملة الشهيرة “اللهم إني صائم” حتى يُغفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه ويحلل صيام بقية يومه.
والعجيب أن كمّ المشكلات التي يقع فيها المواطن بدءا من صبيحة أول أيام شهر رمضان تشهد نسقا متصاعدا بحجج الانقطاع عن المنبهات من سجائر وقهوة وشاي.
ويعلق الناس انفعالاتهم على شهر الصيام ويحملون الشياطين وزر أفعالهم وأقوالهم بقية أشهر السنة، لكنهم يهملون أن ما بالطبع لا يتغير وأنهم إنما يظهرون ما يبطنون من خبائث تملأ قلوبهم غلظة وحسدا وبغضا.
وباعتقادي فكرة وجود الشياطين خلال رمضان تشكل فرصة ومناسبة لاختبار الأسّ المتين للكثير من المجتمعات العربية المسلمة، حتى يتبيّن الخبيث منها من الطيب.
وعلى ما يبدو أظهر الكثير من الناس وهنًا في تركيبتهم القيمية وهشاشة وضعفا في أخلاقياتهم التي نشأوا عليها، ولا يتعلق ذلك فقط بالمزاج السيء للبعض وإثارة الشغب أينما حلوا ولا في تفشي ظاهرة الإفطار علنا في الساحات العامة من البلاد، بل وأيضا في ما يضمرونه من انصياع فطري تجاه كل الموبقات.
ولا يرمى باللائمة على هؤلاء بقدر ما يدان بعض أولياء الأمور على تغاضيهم عن تكوين أبنائهم ضمن منظومة تربوية أسرية تتساهل مع الكثير من السلوكيات والتصرفات الطائشة بدعوى أنهم حديثي السن وسيتغيرون عندما يكبرون دون أن يحاولوا تقويم ذلك الانقضاض، فيكبر ذلك الشرخ ويكبر معه الأبناء وقد تعمق بداخلهم التصدع الأخلاقي.
ويقال “من شب على شيء شاب عليه”، وقد وجدت قصة رائعة تمثل هذا القول أحسن تمثيلا وراقني نقلها قيل “قام أبويزيد البسطامي، صوفي مسلم من أهل القرن الثالث الهجري، يتهجد الليل، فرأى طفله الصغير يقوم بجواره فأشفق عليه لصغر سنه ولبرد الليل مشقة السهر، فدار بينهما حوار شيق بدأه الأب قائلا: ارقد يا بني فأمامك ليل طويل. أجاب الابن: فما بالك أنت قد قمت؟ فقال الأب: يا بني قد طلب مني أن أقوم له. فرد الصغير: لقد حفظت فيما أنزل الله في كتابه ‘إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك’ فمن هؤلاء الذين قاموا مع النبي؟ فنطق البسطامي من فوره: إنهم أصحابه، فاستنكر الغلام قائلا: فلا تحرمني من شرف صحبتك في طاعة الله، فرد الأب: يا بني أنت طفل ولم تبلغ الحلم بعد، فأجاب الصبي: يا أبت إني أرى أمي وهي توقد النار تبدأ بصغار قطع الحطب لتشعل كبارها فأخشى أن يبدأ الله بنا يوم القيامة قبل الرجال إن أهملنا في طاعته، فانتفض أبوه من خشية الله وقال: قم يا بني فأنت أولى بالله من أبيك”.
هذه القصة القصيرة إن عكست شيئا فإنما تعكس ما آل إليه حال الأطفال اليوم بسبب تقصير الآباء، وتؤكد براءة الشيطان من إفراط المجتمعات العربية في قطع صلة الرحم مع دساتير الأولين بحجة تخلفهم عن ركب الحضارة من جهة، وتشبثهم بحبال النفاق الاجتماعي والمغالاة في لبس الأقنعة من جهة أخرى.
نعم الشياطين تضحى بريئة بين أمم جعلت إبليس اللعين تلميذا خجولا في حضرة نسائها، لذا فإن غيابه في رمضان أو حضوره سيان.