فيلس مبدع الوجه المقلوب للغرافيتي

فنان الستريت آرت فيلس يستعمل في أعماله موادّ مختلفة كالخشب والمعلقات والمعادن والبوليستيرين، ولكن ما يميزه عن سائر الفنان هو طريقته في حفر الجدران.
الاثنين 2018/05/28
صهر الفن مع جمالية الغرافيتي الهمجية

ولد البرتغالي فيلس (واسمه الحقيقي ألكسندر فارتو) عام 1987 بسيكسال، إحدى ضواحي لشبونة. قضى جانبا من طفولته محاطا بالجدران والمعلقات الإشهارية والشعارات التي تمجد الرأسمالية الليبرالية، فكان لذلك وقع كبير في نفسه، لا سيما أن والده كان ناشطا ثوريا، يناضل لأجل تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي، فنشأ الطفل منشقا عن المنظومة، يعادي مظهرها الليبرالي الذي لا يستفيد منه غير الأقلية، فيما السواد الأعظم يعاني لتأمين عيشة يومه، وتسديد أجر بيته.

ولع فيلس منذ صغره بالغرافيتي، وكان يداوم الرسم على جدران ضاحيته تلك بشتى الوسائل، ثم انتقل إلى لشبونة لدارسة فنون الخط والرسوم المتحركة ذات البعدين والثلاثة أبعاد، قبل أن ينتقل إلى لندن عام 2007، حيث درس الفنون الجميلة في معهد سنترال سانت مارتنس للفن التشكيلي والديزاين.

حتى نهاية شهر يوليو المقبل، ينزل البرتغالي فيلس نجم الستريت آرت الجديد، ضيفا على فضاء "مئة وأربعة" بباريس، وهي فرصة للتعرف على هذا الفنان الذي يجوب المدن ليترك بصمة واضحة على جدرانها، تتجلى في حفريات ضخمة على واجهة البنايات والمحلات، ينجزها على طريقة البنائين والنقاشين

وما هي إلاّ سنة أو تزيد حتى نال صيتا عالميا بفضل سلسلة “خدش السطح” التي ساهم بها في مهرجان كانس بالعاصمة البريطانية، إذ عرضت جنب لوحات للإنكليزي بانسكي، أحد عمالقة فنون الستريت آرت، ثم تصدرت غلاف مجلة “تايمز”، قبل أن تحتضن غاليري لازاريدس الشهيرة بواكير أعماله، وتفتح له المجال كي يسجل حضوره في أروقة أخرى ببعض المدن العالمية، أمثال شنغهاي وهونغ كونغ وفيلادلفيا وباريس ولشبونة، وتنطلق بذلك مسيرة حافلة رسخت قدمه كواحد من فناني الستريت المجددين.

ومضى يسافر في شتى أنحاء العالم، من أوقيانوسيا إلى الولايات المتحدة، مرورا بأوروبا وآسيا، بحثا عن جدران محمّلة بالتاريخ، لينقش عليها وجوها ذات ملامح محلية.

ويستعمل فيلس موادّ مختلفة كالخشب والمعلقات والمعادن والبوليستيرين، ولكن ما يميزه عن سائر فناني الستريت آرت هو طريقته في حفر الجدران لكي يبرز ملمحا من ملامح ماضي المكان الذي يشتغل فيه ووجها من وجوه أهله.

وقد اعترف نقاد الفن أن أسلوبه فريد لا مثيل له في العالم، وأن صاحبه أحدث ثورة فنية حقيقية، ثورة في الرؤية الفنية، وثورة في الأسلوب الذي اختاره وهو القَشط، ذلك أنه يختار واجهات المحلات وأبوابها المعدنية الصدئة، ولا سيما البيوت المهجورة، والجدران المتداعية، فيعمد إلى نحت الحجر لخلق وجوه آدمية لأناس غير معروفين في الغالب.

ومن خلال نحت الوجوه ونقشها، يحرص فيلس على أن يعيد إلى المواطن العادي مكانته التي يستحق: فالمدينة في رأيه، وجدرانها، وكذا العالم بأسره هي ملك للشعب أولا وأخيرا، وليست ملكا للأحزاب ورجال السلطة مهما عظم قدرهم. بعض النقاد يصف عمل فيلس بـ”الوجه المقلوب للغرافيتي”، ذلك أنه بدل أن يضع رسمه أو زخرفته وخطوطه على السطح، يسحب أجزاء من المحمل لإبراز العمل الفني.

ويستعمل في إنجاز ذلك أدوات لا تختلف عن أدوات البنائين والنقاشين، حيث يتوسل بالإزميل والمعول وقاطعة الورق والكرتون، والحوامض، والمطرقة الهزازة وحتى المتفجرات.

برتغالي يرسم البورتريهات المحلية على الحيطان التاريخية
برتغالي يرسم البورتريهات المحلية على الحيطان التاريخية

يبدأ أولا برسم البورتريهات، وعندما يعثر على جدار تناسب تقنيتُه وأدواته سطح الحجر أو الآجر، يشرع في تنفيذ العمل الذي خطط له، أي أنه يكشط الجدار، ويهدّ جانبا منه أو يفجر ما يفيض عن حاجته، ليخلق وجها رائق الجمال، ذلك أنه يركز أساسا على البورتريه، ليس لأنه أكثر أساليب الستريت آرت شيوعا في العالم فحسب، وإنما أيضا لكونه يلامس المارة بشكل مباشر، حتى وإن كان يعكس وجوها غير معروفة.

وفيلس بذلك يخلّد لحظة مشحونة بالانفعال والتأثر أو التوتر، ويقرّب العابرين من الأثر المعروض ويدفعه إلى التساؤل عن علاقتنا بالعالم، إذ غالبا ما تحتوي تلك البورتريهات على رسائل تضع واقعنا وحياتنا اليومية وحتى النظام الذي نعيش فيه موضع تساؤل، وكأنه يقول “انظروا إلى تلك الوجوه المنهكة، المحطّمة، المعذّبة في مجتمع الاستهلاك، إن أصحابها يحافظون، رغم كل ذلك، على جمالهم وإنسانيتهم”.

واختار فيلس الشارع ليس لأن فيه حرية كبيرة فحسب، وإنما أيضا لأنه فضاء للتنافس مع المحيط البصري للمدينة، وذلك يتطلب تركيزا أكبر، وجهدا أكثر، حتى يكون العمل قادرا على لفت انتباه العابرين، وإثارة اهتمامهم.

وفي هذا يقول “أحاول أن أصهر الفن مع جمالية الغرافيتي الهمجية، وأن أقيم المفارقة بين الجمال الشاعري للأثر المكتمل وبين قوة الوسائل التدميرية، مع الحرص على إعطاء المشهد المديني بعدا إنسانيا، أنطلق من نظرتي إلى الواقع المعقد لمجتمعاتنا المدينية، والنمط الحياتي المعولم الذي يجعل العالم متماثلا كالبضائع
المصنعة، ويقودنا إلى غير غاية، أحاول أيضا أن أستكشف ثيمات الصدفة والأشياء العارضة”.

وبعد لشبونة، ولندن وموسكو وبوغوتا وشنغهاي وسواها من مدن العالم، جاء فيلس إلى باريس كي يترك في بعض شوارعها (في الدوائر 13، و16، و18 تحديدا)
بورتريهات بعض من أهلها، تلفت انتباه المارة إلى لوحات فنية ذات طابع فني لم يألفوه.

16