رواية مصرية بلا حكاية ولا أبطال

رواية "مزاج حر" تضرب بتقاليد الكتابة الروائية عرض الحائط. تخرق الأسس المتعارف عليها في بناء الرواية؛ فلا توجد حكاية أو حتى أبطال بالمعنى المتعارف عليه.
السبت 2018/05/26
السباحة ضد تيار التفاحة (لوحة للفنان بسيم الريس)

يتعامل محمد الفخراني في روايته الجديدة “مزاج حرٌّ” مع الحكاية بمنطق فلسفي غائي، حيث يجعل أحد أهم أهدافها هو البحث عن السعادة أيًّا كان مكانها، وفي أي صورة تتجلى. لا فرق بين بائع متجول يعزف على الهارمونيكا، يظهر عند قدومه الأولاد والبنات يستبدلون أحذيتهم القديمة ويأخذون أشياء عادية، المهم أن يرقصوا معه، أو مهرج يمارس دورا مركبا حيث يعمل على إضحاك الناس حتى ولو كان بداخله يبكي.

كتابة حرّة

الرواية، الصادرة مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية، تضرب بتقاليد الكتابة الروائية عرض الحائط. تخرق الأسس المتعارف عليها في بناء الرواية؛ فلا توجد حكاية أو حتى أبطال بالمعنى المتعارف عليه. وإنما ثمّة بطل وحيد يمشي وراء أحد أحلامه الكبيرة بأن يتجوّل في العالم متشردّا ومتجردّا من كلّ زاد وترف، فقط يمشي بقدميه، حاملا على كتفه “حقيبة صغيرة من القماش.. بها أوراق وأقلام والقليل من الملابس” بلا طعام أو حتى قربة ماء، هادفا لأن يُحقّق حلمه الذي أعاقته من قبل انشغالاته بالكتابة وعدم توفُّر المال.

لقد شفت الحكايات شهريار، ويمكنها أيضا أن تشفي الكثيرين مما يعانونه، شفاء يتجاوز المادة إلى المعنى والروحي والنفسي. لكن نتساءل هنا، ألا يمكن للحكايات أن تشفي البشرية من انحرافاتها الخطيرة على مر تاريخها والتي تتعاظم كلما تقدم الإنسان أكثر في الزمان والمكان. هذا ما تجيبنا عنه رواية “مزاج حرّ” للكاتب المصري محمد الفخراني

لكن مع إصراره على العيش في الحلم يُنحِّي هذه العراقيل. وسبق هذه الخطوة عدّة تجارب سابقة مارس فيها الرّاوي/ الكاتب الجوّال صفة التجوّال؛ كبائع ملابس متجوّل أو بائع أسماك متجوّل وغيرها من الوظائف التي قام بها من قبل. وقد منحته هذه المغامرات التجوالية إمكانية التعرُّف على أصناف مختلفة من البشر، كما مرَّت أمام عينيه قصص متنوّعة أيضا. كان الهدف من هذه الرحلات التجوالية في الشّوارع والمحطات الجانبية والمقاهي، هو البحث عن شخصيات عجائبية وصفهم بأنهم “عيال الليل”. أما الهدف الأسمى لها فيتمثل في اكتشاف نفسه.

عالم الرِّواية مشيَّد ومؤسّس على شذرات أشبه بحكايات تثير في قارئها الدهشة، وبما أنّ الحب لحظة استثنائية من الدهشة، أو هو مفتاح أسرار الوجود كما أخبره عبدربه التائه عندما التقاه، فالرّواية عبر جولات البطل تبحث عنه، في زمان ومكان مفارقين لزمان ومكان البطل الذي سيعود إليه في نهاية الرواية. في إشارة مبطنة إلى افتقاده هذا العالم الذي ارتحل إليه. فالبطل المجهول الاسم يتجوّل ما بين الأرض والسّماء وعبر أماكن مُتفرِّقة ويلتقي بشخصيات خيالية مخترعة على شاكلة المُهرِّج، والفتاة الكمان، والبنت السمكة، والبائع المتجوِّل، والمتشرّد. وأخرى حقيقية لها واقعها المرجعي سواء بحضورها الدينيّ كالنبي موسى في إحدى لحظات حديثه مع الله، والسيدة مريم العذراء وتأكيدها على المحبة، وعمر بن الخطاب وهو يلوم نفسه على امرأة بات أولادها جوعى. أو بحضورها الثقافي؛ كعباس بن فرناس وشهرزاد ودافنشي وغاليليو، وأرخميدس، وأبقراط، وآينشتاين، وابن سينا، وفريدا كاهلو. وثالث شخصيات الروائية الشيخ عبدربه التائه في “أصداء السيرة الذاتية” لنجيب محفوظ، ودون كيشوت بطل سرفانتس، ويحضر كوازيمودو وأزميرالدا بطلي “أحدب نوترادم”، وبالمثل يقابل روميو وجوليت. لا تقف حدود ملاقاته عند اللقاء فقط بل يحاول أن يتدخل ليضع نهاية مغايرة لقصصهم.

عوالم العشق

السِّمة المشتركة في الرواية أن جميع الأشياء تفارق حقيقتها ووظائفها المألوفة لنا، فالفتاة تتحول إلى سمكة، والمتشرد إلى كائن خفيف يتبدل ويتماهى مع الأشياء التي يراها، والشجرة تتحدث إلى المتشرد وكذلك الكاتب الجوّال، والملاك يمشي على الأرض، والبيوت التي تأخذ أشكال قطة وزرافة، والشوارع والأشجار تأخذ صفة الإنسان، فتنادي على الراوي. والقصة والرواية تصيران فتاتين مغريتين، يصير لهما صوت، فتقول الرواية “أنا أرض الأحلام“، أما القصة “فتدعي أنها الأحلام ذاتها”.

رواية تخرق أساليب الكتابة الروائية وتعيد صياغة تاريخ البشرية
رواية تخرق أساليب الكتابة الروائية وتعيد صياغة تاريخ البشرية

تأتي الرواية عبر مجموعة من النصوص القصيرة، التي تحمل عناوين فرعية، من قبيل “ألعاب، مقعد بجوار النافذة، عباس بن فرناس يطير”، وغيرها من عناوين تكشف عن جوهر الوحدة السّردية التي تشغلها. وهي أشبه بنزوع قصصي قصير، حيث كل حكاية تكاد تكون مكتملة زمانيا ومكانيا وكذلك عبر الشخصيات، فالرّاوي مجهول الاسم هو الشخصية المحورية ثم من يقابلهم في رحلته. أغلب هذه الشخصيات ذات مرجعية تاريخية وثقافية، واختيار هذه الشخصيات سواء على مستوى الذكور أوالإناث لا يخلو من فلسفة يريدها الكاتب. فكل شخصية بمثابة استعادة لمنجز ثقافي كان له أثره الكبير.

ينفصل الراوي عن زمنه بل ويتجرد من أدواته كالهاتف والكاميرا ويرتمي في حضن الماضي، ليس فقط بشخصياته وإنما بسياقه الثقافي والتاريخي ومعالمه الحضارية، فعندما يخرج من المحطة ويجد رجالا ونساء يهرولون وهم يصيحون “عباس بن فرناس سيطير”، يصف لنا الأجواء المكانية “يرتدون ملابس عربية من زمن قديم، الرجال في عباءات من كتان، أو قطن، وأحذية خفيفة، والقليل منهم يضع عمامة فوق رأسه، النساء في ملابس فضفاضة ملوَّنة، مع غطاء للرأس..” أما البيوت فلها “شرفات، نوافذ وأفاريز خشبية، بتصميمات دقيقة، الأرض مرصوفة بقطع من حجارة نظيفة”. حالة من الانفصال التي تعني المقاطعة والتمرد على جهامة الواقع ومن ثم كان الاطراد في إبراز المعنى الخفي لهذه الرحلات عبر عبارة العشق التي تتكرر في كل الأماكن وبلغات مختلفة.

يهيمن على السَّرد ضمير المتكلم الأنا، بما يحمله من صفات تقربه من السّرد الشخصي، ومع أن الرواية في المقام الأول خيالية، إلا أن ثمة إشاراتٍ تعود على المؤلف الحقيقي تذوّت السرد وتجعل منه شخصية روائية في بعض المناطق خاصة تلك التي يتحدث فيها عن علاقته بالكتابة، أو من قبيل حضور شخصيات من أعماله السابقة خاصة بطل روايته “ألف جناح للعالم” الذي يستعيده هنا، ويسائله ويغير من وظائفه التي منحها له في الرواية من قبل.

يقوم النص المعتمد على آليات النص الرحليّ، في جزء كبير منه، على الحوار بين البطل الكاتب الجوّال والشخصيات التي يلتقيها، والحوارات مع أنها قصيرة إلا أنها تقف عند الفلسفة التي يهدف إليها من وراء هذا الاختيار لهذه الشخصيات. فكل شخصية على اختلافها تقدم له معنى عميقا للحب، فالحب دهشة، والدهشة حياة. والحكايات شفت شهريار.

كما يؤكّد الرَّاوي على قيمة مهمّة يحرص عليها، ويُسجِّلها أثناء جولاته في الزمان والمكان تتمثل في أنّ الحبّ هو الرّابط المشترك بين الأماكن المختلفة على تعدّدها. فيؤكد في أكثر من موضع على قيمة المحبة وأثرها في إسعاد العالم. وفي سبيل هذه المحبة يتدخل الراوي/ الكاتب الجوال في إعادة صياغة تاريخ البشرية وفقا لهذه المحبة، فيسعى لإنقاذ روميو وجوليت من القتل، وبالمثل يسعى لأن يتدخل لمنع أول جريمة على سطح البسيطة عندما يلتقي قابيل وهابيل.

15