القاصوف

يتساهل البعض في مسألة الدراما التلفزيونية وتأثيرها على صناعة الرأي العام، كما يخطئ الذين يؤمنون بقوة الدراما على الفعل والإقناع، في تقدير قدراتهم على تقديم دراما كفيلة بإحداث التأثير الإيجابي. وهذا كله يحصل طبعا نتيجة حلول وسيلة سطحية، هي التلفزيون، في موضع وسائل هامة وجدية مثل الكتاب والنخبة والحزب ومركز الأبحاث ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة.
في عالمنا العربي السعيد، تقدّم التلفزيون ليصبح كل شيء، تقريبا. وأحيانا كل شيء فعلا. ولأن نجوم الفكر والثقافة والفلسفة والأدب ممنوع عليهم أن يصعدوا أكثر من اللازم، فإن نجوم الكوميديا صاروا هم فلاسفة العصر العربي الحديث.
وصار الشعب ينتظر من عادل إمام أن يشرح له معنى التنمية والوطنية والإرهاب والكباب. وينتظر من دريد لحام أن يلقّمه دروس المقاومة والوحدة العربية، ومن عبد الحسين عبدالرضا أن يناقش مسألة العراق والبورصة.
لا شك أن هؤلاء يستحقون الإعجاب لاستثمارهم الذكي للقضايا الهامة والحساسة بهدف إنجاح مسيرتهم الفنية. أفضل مما لو بقيت أعمالهم مستندة إلى التهريج والتقافز وفعل كل ما يمكن كي يبتسم المشاهد.
لا معنى للتخصص في العالم العربي، ولا قيمة. وإلا فمن يقول إن ممثلا باهر النجاح في الإضحاك، قادر على أن يكون باحثا أنثروبولوجيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا مقبولا بالحد الأدنى؟ كيف يمكن أن تختلط الأمور إلى هذه الدرجة؟
ومثلما تضرب الفوضى بقية أنماط الحياة العربية، تضرب الفوضى العرب أيضا في خاصرتهم الرخوة هذه. ليدخل التلفزيون إلى كل أسرة، ويقدّم لأفرادها ما يشتهي هذا النجم أو ذاك بغض النظر عن دقته ومصداقيته وخطورته في أحيان كثيرة.
ومثلما يجري قصف عسكري لمناطق كثيرة في هذا الجسد العربي، يجري قصف العقل أيضا بقصص وحكايات، تتسلل إلى حياة الناس من باب التسلية لتصبح دروسا سطحية تستخف بدرجة الوعي الذي وصل إليه الناس.
لا شك أن نقد المجتمع مهمة جليلة ونبيلة، ولكن لا يجب أن يكون بديلا عن نقد السلطات التي تتحكم بالمجتمع ذاته، وبدلا من نقد المتطرفين ننتقد المحافظين، وبدلا من نقد الفاسدين، ننتقد الأثرياء، وبدلا من نقد الحكومات الفاشلة ننتقد المواطنين المبذّرين.
على هؤلاء أن يدركوا أن رصيدهم الحقيقي هو لدى الناس، وليس لدى أي من مراكز القوى تلك التي يتقربون منها. ففي النهاية القويّ يستثمر في نجوم الإضحاك أيضا لاستغلال ما تشكل لديهم من شعبية، وحين تبدأ تلك الشعبية بالانخفاض يرمي تلك الورقة ليبحث عن غيرها.