"قانون العباقرة".. مسرحية فرنسية تقف ضد الفن

مسرحية "قانون العباقرة" تحوي نقدا مبطنا للسياسيين الذين لا يهمهم غير الميزانيات التي ترصد هنا وهناك، والفنانين من ذوي الأنا المتضخمة حدّ الانفجار.
الاثنين 2018/05/21
ممثل واحد يحكي سيرة جيل

فرنسوا دو بروير هو من الوجوه الفرنسية الشابة التي تخرجت من المعهد الأعلى للفن الدرامي، سبق أن تقمص أدوارا هامة في مسرحيات “صخب كثير دون جدوى” لكليمان بواري، و”ليلة الملوك” لشكسبير، و”النساء العالمات” لموليير، وها هو يقف وحيدا هذه المرة على خشبة “مسرح العاصفة” الباريسي في عمل رائع بعنوان “قانون العباقرة” تولى تأليفه وإخراجه وأداءه بنفسه.

عمل يسرد فيه سيرة رجل سياسي يدعى ريمي غوتار آلى على نفسه أن يلغي الفن لأنه في رأيه ليست من ورائه جدوى، ويلغي الفنانين بدعوى أنهم عالة على المجتمع لا يساهمون في التنمية ولا في تكوين الثروة، ويغنمون ممّا يشقى الآخرون في إنتاجه ومراكمته. والخير في رأي هذا السياسي الذي سوف يصبح نائبا في البرلمان أن يُسنّ قانونٌ يدمجهم في الدورة الاقتصادية، بدعوى أن المجتمع ما عاد يحتمل إعالتهم.

 

عاش رواد “مسرح العاصفة” بالعاصمة الفرنسية باريس لحظات منعشة مع مسرحية “قانون العباقرة” من تأليف وأداء وإخراج الشاب فرنسوا دو بروير، مسرحية أقرب إلى الـ”وان مان شو”، وإن كانت تعالج موضوعا راهنا هو موقف السياسيين من الفن المعاصر وجدوى الفنانين في المجتمع

موقف ريمي غوتار من الفن والفنانين يجد جذوره في علبة زبادي، وبالأحرى- وتلك عقدة المشكلة الفرويدية التي يعاني منها- في لوحة فنية تمثل علبة زبادي عظيمة الحجم أرادها صاحبها الفنان التشكيلي ريجيس دوفلو احتجاجا على مجتمع الاستهلاك، فحطمها ريمي حينما كان طفلا عن غير عمد.

وأمام الرد العنيف الذي قابله به دوفلو، ارتعب الطفل ونشأ على كره الفن كرها شديدا، ولما صار نائبا في البرلمان، لم يكن له غير مطمح وحيد، هو إلغاء كل التظاهرات الثقافية والقضاء على الفنانين لدمجهم في المجتمع.

وحيدا على خشبة خالية إلاّ من ثلاثة كراس، أحدها موجه إلى الجمهور، والثاني موجه إلى الخلف، والثالث معلق على جسر صغير في الخلفية مثل لوحة لروني ماغريت، يقف فرنسوا دو بروير ليحلّل تحليلا نفسيا الجروح الوجدانية الأصلية التي دفعت ذلك الرجل السياسي إلى تخيل مشروع قانون عبثي كهذا، فيتقمص حشدا من الشخصيات التي رافقت غوتار من الحضانة إلى أبواب قصر بوربون، مقر المجلس الوطني، أي البرلمان الفرنسي.

ويتابعه منذ أن كان طفلا نشأ بين أم تهوى زيارة المتاحف، حتى أنها فضّلت إمتاع نظرها برؤية اللوحات الفنية على أن تقبل ممّن سوف يصبح زوجها في ما بعد أول قبلة غرامية؛ وأب فنان فاشل، وبالأحرى “سيناريست لا موهبة له وشيزوفريني عبقري”، حسب عبارة طبيب التحليل النفسي الذي كان يعالجه، وكان على أهبة الإلقاء بنفسه من فوق جسر بدل العناية بزوجته والوقوف إلى جانبها وهي تكابد آلام الوضع في قسم الولادة.

ويواصل فرنسوا دو بروير تتبع ريمي غوتار حين أصبح طالبا في التاريخ، وصادف أن زار متحف الفن المعاصر مع صديقته، التي سيتزوجها من بعد، ففتنت هي بالأعمال الفنية المعروضة، فيما لاحظ هو أن “مشاهدتها أكثر صعوبة من رسمها”، ثم عندما انخرط في العمل السياسي وصار نائبا في البرلمان، اعتزم عرض مشروع قانون يهدف إلى إلغاء الفنانين، بوصفهم فئة غير منتجة، برغم اعتراض ريجيس دوفلو، الفنان الشهير الذي تجد أعماله رواجا في سوق الفن.

ولقد ظل النص على حافة العبثية، ثابتا في عالم مضحك قائم على ارتجالات استطاع صاحبها التنسيق بينها بتوخي كتابة سينماتوغرافية تقريبا، مقسمة إلى مشاهد من الحياة اليومية، تبرز في طياتها وجوه مثل المهرج الروماني والفنان الدعيّ ريجيس دوفلو، كانت تتناوب على إزعاج راحة ريمي غوتار.

المسرحية تسرد سيرة رجل سياسي آلى على نفسه أن يلغي الفن والفنانين، لأنه في رأيه لا جدوى من ورائهما

ومثل هدرة متعددة الرؤوس، ينتقل دو بروير بسهولة فائقة بين مختلف الشخصيات، من الأم وهي تلد إلى الأب وهو يشرف على الانتحار، ومن المتظاهر الغاضب الذي يرفع شعارات عفى عليها الزمن إلى النائب المسكون بالدَّيْن، ومن المراسل التلفزيوني إلى المهرج الروماني الذي يلهو بكرتين يرميهما في الهواء، ثم يتلقفهما على طريقة البهلوانات في السيرك، كل ذلك في أداء مضبوط بدقة وحسبان، لا يشوبه فتور أو خلل طوال العرض الذي استغرق ساعة ونصف الساعة.

وبفضل تلك الدقة في الأداء، استطاع دو بروير أن يتجنب الوقوع في الكاريكاتير، لأن مثل هذه الأعمال قد توقع صاحبها في الإطناب والإسهاب لا سيما إذا ما وجد من المتفرجين استجابة، قد تشجعه على تكرار اللحظات المثيرة للضحك. وفي هذا العمل المتسم بالسخرية والعبثية، بنى فرنسوا دو بروير خمسة مقاطع كرونولوجية في ديكور متخيل، واستطاع بفضل مهاراته الفائقة، من جهة رشاقته على الخشبة وتناسق الحركات التي يأتيها كلما انتقل من شخصية إلى أخرى، أن يعيد ابتكار الفضاء العاري ويملأه خيالا.

وبرغم ما يتبدى في العمل من عبثية، فإنه يحوي نقدا مبطنا للسياسيين الذين لا يهمهم غير الميزانيات التي ترصد هنا وهناك، والفنانين من ذوي الأنا المتضخمة حدّ الانفجار، وفجاجة معظم البرامج التلفزيونية. ولو أننا كنا نتمنى لو عمد فرنسوا دو بروير، في تحليله النفسي لتلك الكراهية للفن والفنانين، إلى استكشاف البعد السياسي لمثل ذلك الموقف المسبق.

16