قُناقات عيسى الأخرس

المرة الأولى التي سمعت فيها هذا التعبير كانت في معرض تشكيلي لفنان تجريدي، وقف صديقي الناقد العجوز البدين، وهمس لي مشيراً بحركة من عينه اليمنى وحاجبه إلى لوحة من اللوحات “ما هذا؟”. قلت “فن ورؤية”. قال “هذا لا فن، ولا رؤية. هذه الأشكال مثل قُناقات عيسى الأخرس”، والتفتَ مغادراً المعرض وهو ينفث من شفتيه دخاناً شكّل حولي سحابة من ضباب. فانحفرت العبارة في ذهني. وبدلاً من البحث في الفن التجريدي وكبار أساتذته، أخذت أبحث عن قُناقات عيسى الأخرس تلك.
كلمة قُناق قديمة، وتعني قصرا أو خانا كبيراً باللغة الطورانية. لكن عيسى ذاك تطلب بحثاً واسعاً، أعادنا إلى بدايات القرن العشرين، حيث عرفت المدينة أحد المشرّدين الذي فوق فقره وحالته المعدمة، ظل وحيداً ومحروماً من النطق والسمع، فكان شبه معزول عن العالم رغم أنه يعيش في الشوارع.
أيُّ تجريد أكبر من حالة عيسى؟ لكن القصة ليست هنا، القصة أن عيسى هذا كان يجمع القطع المكسورة من كل شيء، بلاستيكياً كان أو معدنياً أو خشبياً أو قماشياً، ويقوم بتجميعها لبناء بيته في العراء.
ومع مرور الزمن تراكم لدى عيسى شيءٌ من كل شيءٍ في المدينة. صنع مسكنه بتلك الأشياء الملونة وأخذ يتوسع فصنع غرفة فوق غرفته الصفيحية، وجعل لها شرفة تنفتح على غرفة فرعية. وكل هذا من البقايا والحطام وسقط المتاع. فأخذ الناس يسخرون منه ويقولون له “ما هذا يا عيسى؟ تبني قُناقاً مثل قناق السلطان”.
والآن لا يغيب ذكر عيسى الأخرس وقناقاته، كلما تمعّنت في الحالة العربية. لقد بنينا قناقات مشابهة بدلاً من الدول. وقناقات مشابهة بدلا من المجتمعات، وقناقات مشابهة بدلاً من الجامعات ومراكز البحث والثقافة والعلوم. جمّعناها من بقايا الأمم، بدلاً من أن نؤسسها من جذورها، وتلقّطناها من هنا وهناك بدلاً من أن نحفر في تربتنا الأصيلة ونزرع بذور الحضارة من جديد.
إحصاءات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “ألكسو” تكشف أن معدل الأمية في العالم العربي بلغ نسبة 27.1 بالمئة. أما عدد الأميّين في الدول العربية فقد بلغ عام 2015 قرابة 54 مليون أمّي، إضافة إلى عدم التحاق قرابة 13.5 مليون طفل عربي بالتعليم النظامي.
ماذا يعني هذا؟ يعني أننا نعيش سعادة حقيقية تجعل من هؤلاء خزانا كبيرا للجهل والتطرف، وعبئاً ثقيلاً على المجتمع، إذ لا يكفي أن تكون صاحب صنعة لتكون غير أمي، فالقراءة والكتابة تعني التواصل والتطور.
كان عيسى الأخرس أذكى من مجتمعه. وكان المجتمع يهزأ من عيسى. بقي عيسى وقناقاته. أما المجتمع الذي سخر منه فتبعثر وصار نثراً تذروه الرياح.