الكاتبة أروى صالح توجه سياطها للمثقفين بعد عقدين من انتحارها

لماذا ينتحر الكتاب والمبدعون؟ سؤال قد نجد له أكثر من إجابة بين السياسي والنفسي والاجتماعي وغيرها من الأسباب العامة والذاتية، لكن انتحار المبدع قد يكون رسالة، وهذا ما يؤكد جانبا منه أن أغلب هؤلاء يتركون رسائل انتحار تكون بمثابة خلاصة لتجاربهم ونقدا وتعرية شجاعة، قد تكون ورقة أو كتابا أو حتى رسمة، نقف أمامها وقوف المشدوه لعصارة الألم والصدق والجرأة الخارجة عن كل قالب.
الثلاثاء 2018/02/13
كاتبة تحدت كل شيء (لوحة للفنان عصام معروف)

مثلت الكاتبة والمناضلة أروى صالح (توفيت في 7 يونيو 1997) حالة فريدة في الثقافة المصرية، فهي كاتبة وروائية مصرية. كانت تعدُّ من أعلام الحركة الطلابية في أوائل السبعينات من القرن الماضي في جامعات مصر. ضاقت بها الحياة فانتحرت بإلقاء نفسها من الطابق العاشر في صيف 1997. انتمتْ إلى جيل السبعينات أو ما عُرف بجيل الحركة الطلابيّة. أصدرت رواية بعنوان “سرطان الروح”، وهي أشبه بتجربة ذاتية تحكي فيها وقائع من حياتها وتعرضها للانتحار أكثر من مرة.

وقامت أيضًا بترجمة كتاب توني كليف «في نقد الحركة النسوانية» عام 1991، بالإضافة إلى دراسة عن الكتابة الروائية لصنع الله إبراهيم. لكن كتابها الأهم كتاب «المبتسرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية»، وهو أشبه بشهادة تعرية لليسار المصري وقد صدرت طبعته الأولى عام 1995 عن دار نشر النهر. وقد اضطلعت سماح سليم بترجمته مؤخرًا إلى اللغة الإنكليزية وقد صدر عن دار نشر Seagull Books.

تاريخ من الفشل

أتت أهمية هذا الكتاب الذي صدرت له ثلاث طبعات حتى الآن -آخرها طبعة مكتبة الأسرة الشعبية عام 2015- عندما نُشر لأول مرة حيث أثار ضجة كبيرة، بل احتدمت حوله المناقشات بسبب جرأة ما أعلنته الكاتبة، فقد كان بمثابة الرصاصة التي أَطلقتها على جيل السبعينات من الماركسيين، وقبلها على نفسها، قبل شهور قليلة من محاولة انتحارها عقب أحداث نكسة 1967، حيث وصفت جيلها بأنه الجيل الذي “قبض ثمن وطنيته قبل أن يدفع ثمنها” كما قال لها بمرارة شيوعي قديم.

 

أهيمة هذا الكتاب تأتي خاصة في الضجة الكبيرة التي أثارها والمناقشات التي احتدمت حوله بسبب جرأة كاتبته

في المقدمة الطويلة التي صدّرت بها المترجمة النسخة الإنكليزية تصف أروى صالح نفسها بأنها “شيوعية مصرية، بلغت أوّل وعيها السياسي في بداية السبعينات، أعقاب حرب 1967، ونهاية عهد ناصر وبداية نظام أنور السادات الانتقالي”، ثم تشير إلى الانتماءات الأيديولوجية التي شكلت صالح حيث “انتمت إلى اللحظة السياسية التحولية التي أطلقتها الحركة الطلابية الراديكالية في ذلك العقد، والجيل السياسي المعروف بـ’جيل السبعينات’. فقد كانت عضوة في اللجنة المركزية بحزب العمّال الشيوعي المصريّ الماركسيّ اللينيني، وسرعان ما ذاع صيتها بين مشرفيها، ورفقائها، ككادر شاب متقد وموهوب. ومع أنها عُرفت بين أقرانها ككاتبة موهوبة”.

 تصف المترجمة الكتاب بأنه “أشبه ببيت أشباح، تتصدّى فيه صالح لمسألة الفشل: فشل مشروع التحرير الوطني، وفشل الشيوعية وحركة جيلها السياسية، وفشلها الشخصي كذات في تاريخ طوباوي”. ومن هنا تأتي أهمية هذه المقدمة، في كونها دفاعًا عن الأفكار المتمردة التي طرحتها صالح في هذا الكتاب، بل وكانت أحد أسباب الهجوم الذي زادت حدته عليها فآل بها إلى نهايتها الدرامية.

لا تكتفي المترجمة بما أوردته من معلومات عن أروى وأزمتها التي أدت بها إلى فقدان الثقة في كل من حولها بما في ذلك ذاتها، وإنما تقدم تاريخًا وتقييمًا للحركة الطلابية، منذ أن ولدت في السبعينات في هذه اللحظة الانتقالية، ورغم غياب الكاتبة برحيلها منذ عشرين عامًا إلا أن المترجمة ترى أروى حاضرة بنقدها اللاذع الأشبه بالسياط للمثقفين المصريين؛ فعلى حد قولها “ظلت حاضرة باستمرار في باطن الخيال السياسي، والإدانات المضادة، والجدليات والنقاشات، على مدار العشرين عامًا الوسيطة”.

ضد التصنيف

جاءت الترجمة الإنكليزية للكتاب في 162 صفحة من القطع المتوسط، وقد حافظت المترجمة على تقسيمات الكتاب كما في نسخته العربية فجاء الفصل الأوّل بعنوان «المُثقف مُتشائمًا»، والثاني عن «مصائر جيل الحركة الطلابيَّة» والثالث «المثقف عاشقًا»، كما تضمن مقدمتيْن وملحقيْن في نهايته. تتطرُّق الكاتبة في المقدمة الأولى إلى تجربة جيل الحركة الطُّلابيّة، ودوافع تَشكُّل هذه الحركة بين طُلاب الجامعات المصريّة في عامي 1972 و1973

مواجهة أدبية شجاعة مع مأساة جيل أنهكه الفشل


مواجهة أدبية شجاعة مع مأساة جيل أنهكه الفشل

لا ينتمي الكتاب إلى جنس بعينه بقدر ما يُقدِّمُ «خبرات ومسارات جيل له ملامح متميّزة عمّا سبقه من أجيالٍ نشطت في الحياة السياسية والفكرية» فالكتاب ليس مذكرات، بالرغم من حضور التجربة والذكرى في قلب الكتاب ومشروعه النقدي وأيضًا هو ليس كتابًا في التاريخ فبقدر ما يأخذ من التاريخ مادته إلاّ أن موضوعه ليس التاريخ والسياسة وإنْ تعرّض لهما، فالكتاب بمثابة «رؤية شخصيّة للأحداث التي عاشها جيل تنتمي إليه الكاتبة».

فمنذ البداية والكاتبة تعي هذه الإشكالية لذا تقول «لقد كتبته دون قرار مُسبق بشأن شكله، كنتُ معنية بنقل تجربة ونقلتها كما أحسستُ بها دون أن تحكمني أيّ اعتبارات أدبيّة». وتشير سليم إلى أن الكتاب أيضًا ليس مقالًا في الاقتصاد أو علم الاجتماع السياسيين، مع أن الخيوط الرئيسة في الكتاب تتضمن تحليلًا محكمًا، من ناحية الطبقة والجندر، لفشل كل من مشروع التحرير الوطني والمشروع الماركسي في مصر. هو لا شيء من ذلك، وكل ذلك في نفس الوقت. وقد استخدم ناقدو صالح بالطبع شكل الكتاب المستعصي على التصنيف، متعدد المعاني، ضدها. لكن تمكن قراءة هذا النموذج الشكلي المعقد المتغيّر لهذا الكتاب، كتجسيد غني لمشروع جندري معرفي، تصير فيه السياسة الحيوية للتجربة والمعرفة والشعور حجر أساس للمساءلة الذاتية والتحليل الاجتماعي والنقد السياسي.

14