عن خرافة "الشعب الإسرائيلي".. أن يحبك شيطان
في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (الثلاثاء 19 سبتمبر 2017) لم يذكّر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي العالم بحق العودة للفلسطينيين، والقرارات الدولية التي لا تسقط بالتقادم بداية من قرار التقسيم (1947)، وتهملها إسرائيل احتماء بالولايات المتحدة، واكتفى بدعوة الفلسطينيين “لقبول التعايش مع الآخر، مع الإسرائيليين في أمان وسلام”، في لوم للضحايا، تلاه نداء “للشعب الإسرائيلي” بأن لا خطر من شيء اسمه السلام.
من الحكمة إعادة تأكيد البديهيات وتسمية الأشياء بأسمائها، فنعلن أن العدو هو إسرائيل وليس بلدا آخر، وأن “الشعب الإسرائيلي” خرافة. هذا جيش استعماري مرتزق يتولى القيام بعمليات قذرة يأنف رعاته أن تتلوث بها أيديهم. وليست إسرائيل مجتمعا طبيعيا لكي يدعى الفلسطينيون والعرب لتطبيع العلاقات معها، هذا جيش محترف، في خطوطه الخلفية مجتمع يلزم مقاتلين خطط لهم أن يدوم عدوانهم.
كلام السيسي يثير شجونا تاريخية محبطة، ذكر نقولا زيادة طرفا منها في مذكراته “حول العالم في 76 عاما: رحلات مثقف شامي في آسيا وأوروبا والشمال الأفريقي 1916- 1992”، حين زار شيخ العروبة أحمد زكي (1867- 1934) في القاهرة “لم يكن كثيرون من العاملين في مجال الفكر أو في مجال السياسة في مصر، يعرفون ما فيه الكفاية عن قضية فلسطين وما يجري فيها. لكن أحمد زكي باشا كان يعرف”.
كلام قاس يتسق مع تصور ذهني عن المصريين المشغولين بشؤونهم الخاصة وحدها، مكتفين بالتباهي بتاريخهم وحضارتهم وغارقين في حاضرهم. في شهادة نقولا زيادة شيء من التجني، واستعجال لم يتح لصاحبه أن يراجع الموقف المصري العام من قضية فلسطين، حتى قبل ثورة البراق عام 1929. ففي عام 1925 نزل آرثر جيمس بلفور صاحب أشهر وعد في التاريخ بوطن قومي لليهود في فلسطين ضيفا على المندوب السامي البريطاني اللورد اللنبي وزوجته في القاهرة، في طريقه إلى القدس للمشاركة في الاحتفال بافتتاح الجامعة العبرية.
الحزب الشيوعي المصري استقبل بلفور بمقال في صحيفة “الحساب” عنوانه “بلفور يزور ضحيته وفلسطين تقابله بالإضراب العام”، وأعلن رفضه لمحاولات الصهيونية اغتصاب فلسطين. وقوبل بلفور بمظاهرات رافضة له ومنددة بوعده. واعتقل وزير الداخلية إسماعيل صدقي الفلسطينيين الذين هتفوا ضد بلفور ومنهم أمين عبداللطيف الحسيني شقيق مفتي القدس، ومحمد علي الطاهر رئيس تحرير صحيفة “الشورى” الفلسطينية، وقد سحل في الشارع، وفي قسم شرطة الأزبكية صادروا أوراقه وسجائره. وفي وقت لاحق سيصير صدقي الذي منحه المصريون لقب “عدو الشعب” رئيسا للوزراء، ويلغي الدستور ويغلق صحيفة “الشورى”، ولا يمس صحيفة “إسرائيل” لسان حال الحركة الصهيونية في مصر.
في كتابها “اليهود المصريون والحركة الصهيونية”، فاجأتني أستاذتي في كلية الإعلام الدكتورة عواطف عبدالرحمن بأنها أكثر قسوة من نقولا زيادة، ولكنها تتسلح بوثائق تدين الكثيرين في المشهد السياسي والثقافي المصري في “العصر الليبرالي”. في ذلك العام، 1925، تلقى “شيخ العروبة” أحمد زكي دعوة لحضور الاحتفال بافتتاح الجامعة العبرية، فأهملها ولم يرد عليها. وأوفدت مصر مدير الجامعة أحمد لطفي السيد مندوبا رسميا، فاستاء الفلسطينيون، وأصدر لطفي السيد بيانا شرح فيه مهمته في القدس، وطبيعة الدعوة الموجهة من جامعة علمية “من المفروض انعدام صلتها بالسياسة”. وتسجل المؤلفة أن الدوائر الصهيونية استثمرت حضور مدير الجامعة المصرية في الدعاية، وأن وكالة رويترز “لم تذكر من أسماء من حضروا ذلك الحفل إلا اسم لطفي السيد”. كما قالت صحيفة “بالستاين ويكلي” الصهيونية “إن حضور مندوب مصر.. كان دليلا على أن مصر العاقلة لا ترى في الصهيونية رأي أهل فلسطين”.
كانت الأحزاب المصرية مشغولة بقضية الاستقلال، حتى أن حزب الوفد “لم يول القضايا العربية اهتماما كافيا”، إلى أن وقعت ثورة البراق؛ فاهتز لها الشعب المصري، وشكلت نقطة تحول في اهتمام حزب الوفد بالقضية الفلسطينية، وفي العام السابق (1928)، عنيت الصحف الوفدية بقضية فلسطين، فنقلت “كوكب الشرق” عن صحيفة صهيونية مقالا عنوانه “مصر وسيناء”، يقدم تصورا لمستقبل فلسطين كوطن لليهود بأن تصبح مستعمرة بريطانية مثل أستراليا، وتضم إليها سيناء “بعد أن تقتطع من مصر”.
أما حزب الأحرار الدستوريين فروجت صحيفته “السياسة” للدعوة إلى التفاهم بين العرب واليهود، “من أجل إقامة الوطن المشترك”، ووجدت هذه النغمة هوى لدى صحف صهيونية في فلسطين منها “هآرتس” التي أرسلت ردا نشرته “السياسة” في 28 سبتمبر 1928، تعبر فيه عن “أسفها الشديد لأنها لأول مرة تسمع صوتا مستنيرا في العالم الإسلامي يشجب سياسة العنف التي يسلكها الشعب الفلسطيني”.
المؤلفة عواطف عبدالرحمن التي نالت الدكتوراه عام 1975 عن “اتجاهات الصحافة المصرية إزاء القضية الفلسطينية 1922- 1976” تسجل أن محمد حسين هيكل رئيس التحرير تبنى فكرة التفاهم بين العرب واليهود، داعيا إلى “تأليف لجنة يهودية عربية تضطلع بهذا العبء”، وأشادت صحيفة “إسرائيل” بمقال هيكل باعتباره “خير ما كتب إلى الآن باللغة العربية بأسلوب بريء من الهوى”. ولم تكتف صحيفة “السياسة” بهذا الضلال أو التضليل، فاستعْـدَت السلطات “ضد الفلسطينيين المقيمين في مصر مهددة إياهم بالطرد، وقد وجهت إليهم تهمة إثارة الطائفية في مصر بسبب النشاط الدعائي الذي يقومون به لتزويد الرأي العام المصري بالمعلومات والحقائق عن أحداث البراق”.
بعد هذه المراجعة التي تبلغ درجة الإدانة لأحزاب ومثقفين بارزين يسهل القول إن الموقف الوطني لحزب أو شخص يتحدد بطبيعة أعدائه وأصدقائه، فلن تشيد إسرائيل بكاتب يرفض الصهيونية كحركة عنصرية استعمارية، ولن تستقيم علاقة ندية بين إدارة أميركية وقيادة وطنية (جمال عبدالناصر أو سلفادور أليندي مثلا).
وكان شاه إيران شرطي أميركا وأبرز حلفائها، فلما سقط عرش الطاووس رفضت أن تمنحه لجوءا في أيامه الأخيرة، ولم يجد الرجل المريض في رحابة الولايات المتحدة مسكنا ولا قبرا، فآواه أنور السادات وريثه في حب أميركا.
أصدقاء أميركا في العالم لا يجرؤون على تسمية شيء بغير ما يريده الراعي، وإسرائيل في مقدمة هذه “الأشياء”. إذا رضيت عنك إسرائيل وأميركا، فلا أقل من أن تراجع نفسك.
روائي مصري