لماذا تخاف الأمهات من النهر
حاولت ابنتي وضع قدمها داخل مجرى ماء النهر، الذي كنا نجلس بمحاذاته هذا الصباح “ماما، هل أستطيع، من فضلك، ها؟”.
كنت أخشى عليها من التعثر فتبتل ملابسها وتصاب بالزكام، أو تجرح قدمها بالصخور الصغيرة المدببة التي كانت تستلقي بغير انتظام على الجرف. قلت لها “لا، لا تقتربي كثيرا، وإلا ستكون المرة الأخيرة”.
يا للعجب! هذه هي الكلمات ذاتها التي استخدمتها أمي قبل أربعة عقود، لتمنعني من وضع قدمي في مجرى ماء نهر آخر ذات نهار بعيد، بعيد جدا.. حتى أن أنفاسي قد تقطعت وأنا أحاول أن أغلق عيني لأقطع المسافة الافتراضية بين زمنين، على شكل حلم طارئ.
في الواقع، يقع هذا النهر اللندني بالقرب من منزلي، على مسافة كيلومتر واحد تقريبا، تحيطه على طول خطه أشجار الزان والدلب وبعض من أشجار التوت البري، وغيرها الكثير لا أعرف أسماءها؛ عالم متشابك من الخضرة تحرسه قبائل من طيور، أسراب من بط وبجعات رقيقات تشبه شقيقاتها بطلات قصص الرسوم المتحركة، بل وأجمل!
تركت صغيرتي تستطلع المكان بشغف وهي ترمي بقطع الخبز اليابس للبجعات، وسافرت بذاكرتي إلى ذلك الصيف البعيد الذي كنت أجلس فيه على جرف نهر أبي الخصيب في جنوب العراق، جنوب الحزن؛ أترصد المكان بعينين ذابلتين بسبب البكاء، بينما أجلس مسترخية على الدرجة الرابعة من السلم الصخري الذي كان يفصل حديقة منزل خالتي الريفي عن الماء.
كنت أمضيت الليلة الفائتة وأنا أجمع دموعي وأعتقها، بعد أن أوشكت العطلة الصيفية على نهايتها وحان وقت العودة إلى المنزل، حيث لا نهر أجلس على شرفته ولا بطات ألهو معها ولا شجرة نبق أغفو تحت ظلها.
ما أقسى النهايات، كنت أقول لنفسي وأنا أغادر المكان، لكنها لم تكن نهايات أبدية؛ إذ كان الشتاء موعودا بالرحيل في كل مرة تتبدل فيها الفصول، فتأخذني قدماي إلى صيف آخر حيث النهر والبطات والأشجار، بعد رحلة قصيرة تقطعها السيارة من مركز مدينة البصرة إلى حيث أبي الخصيب.
أما الآن، فأنا على مسافة خمسة وثلاثين عاما وأكثر، وقد غادرتني رائحة المكان التي كانت خلطة عجيبة من عطور الأزهار المرصوفة بعذوبة على أسوار الحديقة الخلفية للمنزل الريفي، مع رائحة طحالب النهر ورطوبة فصل الصيف الحار، رائحة المكان والناس وأحلام الطفولة.
في إحدى المرات، تلبستني شجاعة طارئة فغطست قدمي في الماء بعد أن تأكدت من انشغال أمي في إعداد الطعام في المطبخ، نجحت لمرة واحدة وأخيرة وحين وصلها الخبر، غضبت كثيرا ووبختني بكثير من الحب. كنت أقول لنفسي “مما تخاف الأمهات؟ لماذا لا تسمح لي أمي بالخوض في الجرف بين الحين والآخر؟.. إنه أمر مزعج حقا!”.
لم أستطع أن أفهم خوفها ذاك، بينما كنت أتوق للمس الماء والإحساس بزحف الطحالب على أصابع قدمي ومشاكسة بعض صغار أسماك الزوري التي كانت تستحم بالقرب من درجات السلم الأخيرة، غير عابئة بتحذير أمهاتها.
صغار الزوري في نهر أبي الخصيب كانت أكثر مني شجاعة، كانت تفعل ما تراه مناسبا، ولهذا اصطدنا منها الكثير بمجرد وضع إناء بمشبك كنا نستولي عليه خلسة من مطبخ خالتي.
خافت علي أمي من النهر، خافت من أن يجرفني فأبتعد عن ناظريها ويصطادني وعاء بشبك فلا أعود لمملكتها ثانية.
كنت أستعيد ذكريات الماضي وأنا مغمضة العينين؛ فرائحة الطحالب لم تكن تختلف كثيرا في النهر اللندني، لكن ابنتي الصغيرة أيقظتني من حلمي السريع وهي تتمتم بغضب محبب “لماذا تخاف الأمهات من النهر، ماما، هل أستطيع أن أضع قدمي في الماء، قليلا فقط؟”.
أجبتها بابتسامة محذرة “لا، لا، وإلا ستكون المرة الأخيرة، الأسبوع المقبل ستنتهي العطلة الصيفية، علينا أن نعود الآن!”.
كاتبة عراقية