المستقبل ينسخ النص.. حكمة تاريخية لا يفقهها البعض
تبددت أعمار بضعة أجيال في البحث حول الأصالة والمعاصرة، ولا يزال لهذه الثنائية بريق في مؤسسات تعليمية دينية، وكليات غير دينية تدرس مادة الشريعة مثل دار العلوم بجامعة القاهرة. وأراهن على ظهور باحث من سلالة الذين وهبوا حياتهم للتوفيق بين هذه الثنائيات، ليتأكد له التماهي بين التوفيق والتلفيق، وأن التحديث باستخدام آخر ما أنتجته عقول حرة خارج بلاد المسلمين لا يعني الحداثة، وأن التردد في التفاعل مع روح العصر بزعم المحافظة على الهوية يؤدي إلى تآكلها، والنحر في قواعدها.
استقرت حكمة التاريخ وقضت بأن أي اكتشاف علمي أو تطور أخلاقي نوعي اهتدى إليه البشر وانتزعوه إذا تصارع مع نص مقدس، يرفع لواءه رجال دين ويحتمي به كهنة ويستفيد منه مفسرون، كان النصر النهائي للمنتمي إلى المستقبل، وإن تعرض أصحابه للمحاكمة والإجبار على إنكار حقائق العلم وطبائع العصر.
ما فعله المبتدعون أنهم تجاهلوا النقل، وتجنبوا الاتباع، وآمنوا بالعقل فهداهم إلى بدعة، فكرة معرفية أو قانون طبيعي. والبعض لم يجرؤ على التمسك بما توصل إليه فتراجع مضطرا من باب التقية، إلى أن أعيد إليهم الاعتبار بعد قرون كرموز عظام. ولم يخل الأمر من مأساة أو مسخرة.
مازال في العالم العربي رجال دين يخشون على سلامة إيمانهم من حقيقة كروية الأرض، ويجادلون بالقرآن في غير ما أنزل من أجله، ويرون في آيتيْ “والأرض وما طحاها” و”الأرض كيف سُطحت” نفيا لكروية الأرض.
ولا يتردد البعض في تكفير من يقول إنها كروية، في إعادة إلى صراع النقل والعقل، حين حوكم جاليليو الذي دافع عن نظرية كوبرنيكوس الخاصة بمركزية الشمس ودوران الأرض حولها، وتعارض الاجتهاد العلمي مع ثوابت الكنيسة الكاثوليكية، وهمس للكاردينال “انظر بعينيك في التليسكوب، وسترى بنفسك أن الشمس ثابتة، وأن الأرض تدور حولها”. ولم يصمد الكاردينال أمام الحقيقة العلمية، فاحتمى بالنص، واطمأن لدفن رأسه في الرمال، وقال لجاليليو “لا أنظر في منظار يزعزع عقيدتي”. جرى ذلك عام 1616، وسوف تعتذر الكنيسة لجاليليو، وتقيم له داخل الفاتيكان تمثالا، بعد انتهاء خصومة العلم والدين.
أما العالم الإسلامي فأهدر من عمره بضعة قرون، بسبب تحريم مشايخ السلطان العثماني للمطبعة في نهاية القرن الخامس عشر. فتوى استهوت السلطان بايزيد الثاني الذي خشي آثار نشر المعرفة، وتعميم التعليم ورفع مستوى الوعي، وكلها من ثمار الطباعة.
في القرن التاسع عشر شهدت مصر جدلا فقهيا حول الوضوء من ماء الصنبور، بدلا من الماء الجاري أو آنية صغيرة، قبل توصيل مياه الشرب إلى المساجد. اعترض علماء الحنابلة والشافعية والمالكية على الوضوء من ماء الصنبور، متسلحين بحديث “كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار”، ولكن مفتي الحنفية تجاسر وأجازها، فدخلت الحنفية كل المساجد وسجلت للأحناف قدرتهم على التحرر من سلطة التقليد.
لا أستهدف الدفاع عن دعوة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، يوم 13 أغسطس 2017 في الاحتفال بعيد المرأة التونسية، إلى المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في كل المجالات ومنها الميراث، ضمن طموح الدولة ككيان اعتباري فوق ديني، يضمن “تكافؤ الفرص بينهما في تحمل جميع المسؤوليات”، فاستفز الأزهر بتصريحات تجعله وصيا على التأويل البشري للدين.
ففي اليوم التالي قال عباس شومان وكيل الأزهر “دعوات التسوية بين الرجل والمرأة في الميراث تظلم المرأة ولا تنصفها وتتصادم مع أحكام الشريعة.. المواريث مقسمة لا تحتمل الاجتهاد ولا تتغير بتغير المكان والزمان”.
وفي 20 أغسطس 2017 أصدر شيخ الأزهر أحمد الطيب بيانا لا يصرح باسم السبسي أو تونس، أعاد الكلام نفسه بصيغة أخرى، فالنصوص “إذا كانت قطعية الثبوت والدلالة معا فإنها لا تحتمل الاجتهاد، مثل آيات المواريث… فمثل هذه الأحكام لا تقبل الخوض فيها بفكرة جامحة، أو أطروحة لا تستند إلى قواعد علم صحيح وتصادم القطعي من القواعد والنصوص، وتستفز الجماهير المسلمة المتمسكة بدينها، وتفتح الباب لضرب استقرار المجتمعات المسلمة”.
لا نملك ترف إضاعة قرون أخرى، ولم يدع السبسي تقديم فتوى دينية يستبدل بها نصا قطعيا، ولكنه يطرح قضية حقوقية اجتماعية لها علاقة بدور الدولة في تنظيم عملية الإنتاج، ومنع التمييز، وإقرار مبدأ المساواة، ورفع الظلم الواقع على النساء بحجة وجود آية اجتهد في تأويل مثلها عمر بن الخطاب، أكثر من مرة، ولم يتهم بالعدوان على نص قرآني قطعي الدلالة.
ففي خلافة أبي بكر الصديق وافق على منح “المؤلفة قلوبهم” نصيبا نصت عليه آية لم تنسخها آية أخرى، ولكن عمر اعترض قائلا “لا حاجة لنا بكم، فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم”، وأقره أبوبكر الصديق على اجتهاده الذي تأسس على السياق التاريخي للنص لا على ظاهره. ما فعله عمر هو الانتصار لروح الشريعة. وترتبط قضية المواريث بدور الدولة في تطبيق مبدأ المساواة بمراعاة ظروف كل حالة، والنظر إلى “الإنسان” من دون تفرقة، فعلى سبيل المثال لا يعقل شرعا وقانونا في أسرة تنفق عليها ابنة، لمرض الأب، أن يأتي أخ عاق أو عاطل بعد موت أبيه ويحتج بآية المواريث لكي ينال مثليْ حظ أخته من تركة هي حصاد شقائها.
تطور الأخلاق نسخ بعض ما جاء في القرآن توثيقا لأشواق الإنسان إلى الحرية الفردية، فبقي توزيع الفيء والرق والسبي وملك اليمين نصا شاهدا على تاريخية سلوك أصبح جريمة ضد الإنسانية.
مرضى القلوب، كارهو العدل، وصفوا اقتراح الباجي قائد السبسي بأنه ثمرة “الربيع العبري”. هنا وجب التوقف أمام سفور العداء لثورات انطلقت من تونس. هذا وحده يطرح السؤال: قل لي موقفك من الثورات العربية أقل لك من أنت؟ وفي المقال القادم متسع لجوانب من الإجابة.
روائي مصري