قطر والحج وقميص عثمان

الثلاثاء 2017/08/22

تؤكد الدوحة مرة ثانية أن مقولة تسييس الحج الذي ترفعه كقميص عثمان في سياق المزايدة ضد المملكة العربية السعودية، تنسحب على سلوكها وأدائها وتتلاءم مع مسلكيات القُطرية العنادية ضد مبادرات حسن النية وتحييد الحج عن المشاكل الثنائيّة.

مبادرة الملك سلمان بن عبدالعزيز بنقل الحجيج القطريين من الدوحة إلى جدة لأداء منسك الحج لهذا العام من خلال طائرات سعودية صبت في صميم إعلاء المنسك الديني على الاختلافات السياسية، وعدم تحميل الشعب القطري وزر حكومته التي دفعته نحو العزلة الإقليمية والانفصال الناعم عن الحضن الخليجي.

وفي الوقت الذي رفعت فيه الرياض شعار الحج فوق السياسة، اختفت الدوحة وراء عنوان “الحج المسيس وتسييس الحج” وهي بذلك تحول دون تأدية رعاياها للمنسك الخامس من الإسلام، والأهم من ذلك أنّها تزيد الهوة السياسية اتساعا وشقّة.

لم تقرأ الدوحة جيدا مبادرة العاهل السعودي وتعاملت معها بنفس العنهجية المقيتة التي اعتمدتها طيلة فترة الأزمة، وعوضا عن النزول من فوق شجرة التنطع والاعتزاز بالخطيئة ارتأت التصعيد في ملف استراتيجي وحساس يمتلك من مقومات التجميع الكثير في حال صدقت النوايا، ويحوز في المقابل على مقدرات التفرقة والتشرذم في حال تسربت الشكوك إلى القلوب والعقول والأفئدة.

الناظر إلى ملف الحج خلال السنوات الماضية يتبين أن ميسما خاصا من مياسم القرب الجغرافي والتاريخي والأنثروبولوجي فرض حضوره في مسلكيات التعامل مع قطر، وغاب عن طرائق التعامل في ذات الملف مع إيران وسوريا.

كانت الأيادي السعودية ممدودة لإيران وللسوريين لتأدية فريضة الحج على الرغم من سنوات التناقض ومواسم التباين الشديد مع طهران ودمشق، وعلى الرغم من السعي السعودي لتحييد المنسك الخامس عن الحسابات السياسية إلا أن رغبة الرياض في ضم الحجيج الإيرانيين والسوريين إلى صفوف ضيوف الرحمن، لم تبلغ مستوى المبـادرة الرسمية لتوجيه الطائرات السعودية لنقل كافة الحجيج من بلدهم وإعادتهم إليها.

أثبتت الرياض من خلال مبادرة الحج أنها تضع لأواصر القرب الجغرافي والقرابة الوشائجية وزنا حقيقيا في أزمتها السياسية، فيما أكدت الدوحة من خلال رفضها القاطع للمبادرة أنها تسقط كافة العلائق الوجدانية وتدحض كافة المقتضيات الدينية في مكاسراتها السياسية.

لا تزال الدوحة تواصل في سرديات المظلومية ساعية عبرها إلى قلب الحقائق وتغيير الوقائع، وهي بهذا الأمر تضحي برعاياها وتحرمهم من أداء منسك الحج

لا تزال الدوحة تواصل في سرديات المظلومية ساعية عبرها إلى قلب الحقائق وتغيير الوقائع، وهي بهذا الأمر تضحي برعاياها وتحرمهم من أداء منسك الحج ليتحولوا إلى وقود في حرب نزع الشرعية الدينية والمناسكية عن بلد الحرمين الشريفين.

تحضر الدوحة مدفعيتها الإعلامية والسياسية والدبلوماسية الثقيلة لخطاب المظلومية المكلومة في افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يكون حج هذا العام حجة استدلال لتكريس سردية الضحية، ولتأمين أوسع قدر ممكن من التضامن مع الدول الرمادية.

المفارقة هنا أن ذات الدول التي تسعى إلى تدويل الحج وتضرب مثال الفاتيكان كنموذج للسلطة الدينية ضمن حدود الدولة اللادينية (إيطاليا في هذا السياق)، هي ذاتها دول كهنوتية تخلط الدين بالدولة والسياسة بالدين.

والمفارقة الأعظم أن ذات الدول التي تزايد على السعودية في مواضيع الإصلاح الديني لم نشهد لها إصلاحا دينيا حقيقيا، سواء أكان جزئيا أو شاملا، على الرغم من عدم احتضانها لبقاع مقدسة تهفو لها أفئدة مئات الملايين من المسلمين في كافة بقاع العالم.

تدرك المملكة العربية السعودية اليوم أن موسم الحجّ الحالي هو موسم استثنائي بكافة المقاييس، لا فقط لأنّ عدد الحجيج زاد بنسبة 20 بالمئة مقارنة بحجيج العام الفارط، بل أيضا لأن عدد المراهنين على فشل الحج والراهنين مستقبلهم السياسي على هفوات التسيير والتنظيم كثيرون جدا من داخل الخليج ومن خارجه أيضا.

سواء دخلتَ المملكة العربية السعودية من مطار جدة الدولي أو مطار المدينة المنورة، فانطباع دفين سيرسخ في ذهنك، السعودية متأهبة ومتجندة لكافة الفرضيات ودارسة لمعظم السيناريوهات المتوقع حدوثها، أحلكها وأحلاها أيضا.

كاتب ومحلل سياسي تونسي

9