التقية من السياسة إلى الفقه السني

الثلاثاء 2017/08/22

ربما لا تتفق التقية كمبدأ وممارسة ارتبطت تاريخيا بالشيعة مع الوصية الأخيرة للإمام علي. فحين أخبره أطباء الكوفة بأن ضربة ابن ملجم مميتة، وطلبوا أن يعهد عهدا، دعا بصحيفة ودواة لتسجيل وصيته، وفي نهايتها قال “لا تخافوا في الله لومة لائم فـإنه يكفيكـم مـن بغى عليـكم وأرادكـم بسوء”.

ولكن الخوف، الخوف من الاضطهاد والتعذيب والقتل تحديدا، نقل التقية من السلوك الوقائي، إلى ما يشبه العقيدة.

فما الذي يجبر شيخا سنيا مصريا بارزا على أن يكتم، لمدة عشرين عاما، رأيا فقهيا عليه من القرآن دليل، وقد ضاق به صدره، ولم ينطلق لسانه إلا في ندوة نظمت خارج بلاده؟

أرى في سلوك الشيخ الذي كتم شهادته اعتذارا للشيعة، ونسفا لآراء ابن تيمية في التقية وأصحابها، وقد أسهم الفضاء الإلكتروني في افتكاك هذه الآراء من رفوف المكتبات، وإطلاقها قذائف انشطارية بأيدي من يحتاج سندا “فقهيا” للقتل، وتتكفل العشرات من المواقع السلفية السنية بتوصيل هذه الشظايا المذهبية إلى المنازل والهواتف لمن أراد استعجال فتوى ابن تيمية في التقية والشيعة، فيقول إن “الرافضة هم أجهل الطوائف وأكذبها وأبعدها عن معرفة المنقول والمعقول، وهم يجعلون التقية من أصول دينهم، ويكذبون على أهل البيت كذبا لا يحصيه إلا الله”، وإنه “لا يجوز لأحد أن يُنكح موليته رافضيا”.

حاملو هذه الصفحات الصفراء يفرحون بهذه الروح العدائية، جاهلين السياق التاريخي للوقائع والاجتهادات، ومتجاهلين أن للسنة أيضا تقية تنتظر ندوة خارج البلاد، أو ثورة يظنونها بداية التمكين، ومن حسنات ثورة 25 يناير 2011 أنها حررت النفوس المريضة من عبء التقية، وهنا أربعة مشاهد دالة، حين ظنوا الثمرة دانية فاستعجلوا سقوطها.

المشهـد الأول: في فبراير عام 2012 قال السلفي محمد حسان “حب الوطن مسألة عقيدية ودينية، ولا بد أن يتم تصحيح الانتماء ليكون للدين ثم الوطن”.

في الشق الأول شبهة نفي للوطنية عمن لا يدين بدين، إبراهيمي تحديدا.

والشق الثاني صريح في ترتيـب الأولويات، ويقضي بأن الانتماء للدين مقدم على الوطن، وبهذا “الفقه” لا لوم على المسيحي المصري أن يقدم ولاءه للدين على الوطن، فيرفض المشاركة في الدفاع عن بلاده إذا واجهت جيشا يدين جنوده بالمسيحية؛ لأنهم أقرب إليه من مواطنيه، ولديه حجة “شرعية”، إذ “صحح” انتماءه فجاء الدين أولا، وخيّر بين الانتماءين فأفتاه قلبه بما دعا إليه الشيخ حسان.

ما الذي يجبر شيخا سنيا مصريا بارزا على أن يكتم، لمدة عشرين عاما، رأيا فقهيا عليه من القرآن دليل، وقد ضاق به صدره، ولم ينطلق لسانه إلا في ندوة نظمت خارج بلاده

وإذا تم تعميم قضية الانتماء في دول يحظى فيها مضطهدون عرب ومسلمون بالحرية والمساواة ونالوا جنسيتها، فسوف تنتقص حقوق نالوها في ظل علمانية تحتفظ بمسافة بينها وبين الأديان، وتحمي معتنقيها ولا تفرق بين أحد منهم.

المشهد الثاني: في تجاذبات ما بعد خلع حسني مبارك بين قوى ثورية والمجلس العسكري الحاكم، مال اليمين الديني إلى الأخير، ودافع عن أدائه المتخبط بافتعال شجارات غير موجودة، فقد أرادت قوى الثورة سرعة تسليم السلطة، ولكن الإخوان أوهموا العامة بأن المجلس العسكري هو الجيش وأن الجيش هو الوطن.

وقال صفوت حجازي بعد صلاة عيد الفطر في ميدان التحرير (30 أغسطس من العام 2011) بلسان جنرال فصيح “اللي يرش الجيش بالمية هنرشه بالدم”.

وهو التصريح الذي أعاد إنتاجه، بالحذف والاستبدال، قبل 30 يونيو 2013، مع تصاعد الدعوات الرافضة لحكم الرئيس الإخواني محمد مرسي.

المشهد الثالث: بدأ مرسي حملته الانتخابية في 30 أبريل 2012 من مسجد عمرو بن العاص بالقاهرة، ولم يكن مصادفة أن يقول مرشح للرئاسة من مسجد صحابي قاد الجيش لدخول مصر “سوف نعيد فتح مصر”.

تصريح يهين المسلمين المصريين، ويقلق موتى رحلوا على غير “دين الإخوان”.

المشهد الرابع: بحضور الـرئيس الإخـواني أعلن خطيب الجمعـة في أسيوط (2 نوفمبر 2012) أن “الإسـلام قـادم لا محـالة”، وفيه إهانة، تتجاوز إهانة محمد مرسي حين كان مرشحا، للمصريين عبر 14 قرنا، وتتهم المجلس التشريعي الذي يسيطر عليه الإسـلاميون والـرئيس الإخواني بالفشل في استقدام الإسلام، إلا أنه “قادم لا محالة”.

وفي اللغط الذي ترتب الأسبوع الماضي على دعوة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي إلى المساواة بين الرجل والمرأة في كل المجالات ومنها الميراث، لم نجد شيخا سنيـا يتحرر مـن التقيـة فيعلن توافـق مقاصد الشـرع مع المنجـز الحضاري البشري.

وكأن علينا أن ننتظر عشرين عاما، لنشهد اجتهادا ضاق به صدر صاحبه، كما روى يوسف القرضاوي في الجزء الثالث من سيرته “ابن القرية والكتاب” عن الشيخ محمد أبوزهرة (1898 – 1974).

كان القرضاوي قد تلقى عام 1972 دعوة من ليبيا، للمشاركة في ندوة للتشريع الإسلامي، بحضور علماء من مصر وسوريا ولبنان والعراق وغيرها، وسمح له المسؤولون القطريون “بإجابة الدعوة، لا سيما أن ليبيا هي التي ستتكفل بتذكرة الطائرة ونفقات الإقامة، ولن تتكلف قطر شيئا. وكانت هذه أول مرة أخرج من صومعة قطر”.

في بداية هذا الفصل يتناول يوسف القرضاوي “العقوبات الإسلامية” ومنها حد الزنا، في تأكيد على أنه وهو يكتب سيرته عام 2004 لم يقتنع باجتهاد الشيخ أبوزهرة الذي “فجر في الندوة قنبلة فقهية” هيجت عليه الحضور، بعد أن قال لهم “إني كتمت رأيا فقهيا في نفسي من عشرين سنة، وكنت قد بحت به للدكتور عبدالعزيز عامر”، وأشار إليه قائلا: أليس كذلك يا دكتور عبدالعزيز؟ فرد: بلى. وأكمل الشيخ أبوزهرة “وآن لي أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس؟ هـذا الرأي يتعلق بقضية الرجم للمحصن، في حد الزنا، فرأيي أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور”.

قدم أبوزهرة أدلة منها آية “فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب”، والرجم عقوبة لا تتنصف، ورجح أن آية “وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين” نسخت الرجم. ولم يبال باعتراض أغلب الحضور، وثبت “كالطود الأشم”.

وقال للمؤلف “هل من المعقول أن محمد بن عبدالله الرحمة المهداة، يرمي الناس بالحجارة حتى الموت؟ هذه شريعة يهودية، وهي أليق بقساوة اليهود”.

قدّر القرضاوي أن “الحملة الهائجة المـائجة التي واجهها الشيخ أبوزهرة” جعلته يصمت، ولا يكتب رأيه، وإن نسب هذا الرأي في كتابه “العقوبة في الفقه الإسلامي” إلى الخوارج.

وتساءل يوسف القرضاوي “كم من آراء واجتهـادات جديدة وجريـئة تبقـى حبيسة في صـدور أصحابهـا، حتى تمـوت معهـم، ولم يسمـع بها أحد، ولـم ينقلها أحد عنهم!!”.

انتهى مقالي قبل الوصول إلى حكمة تلخصها ثلاث كلمات “المستقبل ينسخ النص”، فلأجعلها عنوان المقال القادم.

روائي مصري

9