طيف اليونسكو.. جائع يحلم بالخبز ويلعب بخطة الجوهري

الخميس 2017/08/17

مساء الأربعاء 23 سبتمبر2009 عاد وزير الثقافة المصري العتيد فاروق حسني إلى القاهرة، في طائرة خاصة ببرلماني من رجال المال متهم بالاستيلاء على أرض للهيئة المصرية العامة للكتاب في شارع فيصل بالقرب من بيتي، وأمرّ عليها ليلا ونهارا، وأتحسر مرتين في اليوم الواحد ذهابا وإيابا على ثورة 25 يناير 2011 التي منحتنا أملا في استعادة تلك الأرض، بعد الحرية، ثم تجمدت، الثورة وقضية استرداد أرض الدولة. هيئة الكتاب تتبع وزارة الثقافة، والوزير لا يعنيه تبديد المال العام، ولا يخجله كسر عين الحكومة بامتطاء طائرة خاصة بملياردير، والشعب لا يعرف كم حمّلته الحكومة في حملة فشلت في الدفع بالوزير المثير للزوابع إلى قمة اليونسكو.

حسني عرّف الماء بالماء، وقال في المطار إن “المنافسة على منصب رئاسة اليونسكو تم تسييسها”. لا أسهل على أي فاشل من الارتكان إلى نظرية المؤامرة. وبسرعة تجاوز خسارته، ولم يسأل عن الأموال المهدرة في خطة تسويقه، ما دام حسني مبارك طمأنه قائلا “ارم ورا ظهرك”، ومن المطار وجه حسني الوزير الشكر لحسني الرئيس ولابنه جمال الرئيس الفعلي.

سأبدأ من محطة قريبة، من حلم مصر بالعودة إلى المشاركة في كأس العالم لكرة القدم، الصعود إلى النهائيات أمل في حد ذاته مهما تكن النتائج. لم يكن مثارا ماذا سنفعل بعد الصعود؟ فالمشاركة غاية، حلم بالخبز الحاف لجائع بليد لا تستفزه موائد عامرة بما يكافئ اجتهاد أصحابها الموهوبين.

وقد تحقق الحلم في مونديال 1990 بإيطاليا. كان أداء الفريق هزيلا، تعادل سلبيا مع أيرلندا، وهزمته إنكلترا بهدف، وتعادل مع هولندا. تلخصت خطة المدير الفني “الجنرال” محمود الجوهري في تكتل الفريق في نصف ملعبه؛ مع الحلم بانتهاز هبة لا تمنحهـا السماء للكسالى، لخطف هدف من هجمة مرتدة. نجحت الخطة في تأمين مرمى مصر فلم يصب إلا بهدفين، أما هدف التعادل مع هولندا فمن ضربة جزاء.

اعتمد “الجنرال” على “تعقيد” الخصم من اللعب المتكافئ وتسجيل الأهداف، فأصيب المدير الفني لمنتخب أيرلندا باليأس، وتمنى أن يفك لاعبو مصر عقدة المباراة حتى لو سجلوا هدفا وتساءل “إذا كان المصريون لا يريدون لعب الكرة، فلماذا جاؤوا؟”.

وبسبب الجنرال الجوهري عدّل الاتحاد الدولي لكرة القـدم (الفيفا) قـوانين اللعبة، باحتساب إعادة الكرة لحـارس المرمى خطأ إذا أمسكها، لكي لا يكتفي الحارس بالاستحواذ على الكرة التي يعيدها إليه زملاؤه.

خطة الجوهري هي فلسفة حكم مبارك، وقد شبهه الكاتب المصري كامل زهيري بحارس مرمى ينجح في صد الكرات فيحمي شباكه، ولكنه لا يحقق فوزا ولا يسجل هدفا. هي بلادة الاستقرار وحركة العاجز في محله ليتفادى أن تجرفه رمال متحركة، ولكنه لا يسبح ولا يتقدم خطوة.

هكذا حلموا بتنظيم بطولة كأس العالم 2010، في دولة تنقصها فلسفة “الدولة” بمؤسساتها التي ترتبك لو مرض الرئيس، وفتحت المحاكم قاعاتها لمن أعلنوا عن مرض مبارك عام 2007. وقبل ذلك بأربع سنوات كتبت في جريدة “العربي” الناصري مقالا عنوانه “عن وهم المونديال وأشياء أخرى”، في 7 ديسمبر 2003، بعد أسبوعين من ترنح حسني مبارك، وإصابته بإغماءة أثناء خطابه في مجلس الشعب (19 نوفمبر 2003)، وقلت “لنا أن نتصور أن الوعكة الصحية الطارئة التي ألمت بالرئيس (وفقا للصك الرسمي المصري) قد حدثت عام 2010، أثناء إقامة أربع مباريات أو قبيل بدئها. في مثل هذه الحالة ستنشغل الفضائيات عن مباريات ألغيت ببث مادة مسلية أشبه بملهاة لم تخطر على بال أوسع الكتاب خيالا”.

فهل أصابت مصر بترشيح السفيرة والوزيرة السابقة مشيرة خطاب لمنصب المدير العام لليونسكو؟ لن أسارع إلى تقديم إجابة، وليتك تنتظر حتى أنتهي من هذا المقال، لكي نصل معا إلى مشروع إجابة.

إذا استبعدنا التحالفات والتواطؤات، فإن التصويت لهذا الموقع ولغيره من المناصب الدولية المرموقة يستند إلى أمرين، أولهما خبرات وكفاءات المرشح في مجاله. وليس لمرشحة مصر تاريخ من الإسهام الثقافي وتقتصر خبراتها على العمل الدبلوماسي، فهل هذا كاف؟

يمكن لمرشح كفء أن يمثل نفسه، إذا خذلته دولته فترشحه دولة أخرى، ولمصر “سوابق” منها ترشيحها للسفير محمد شاكر عام 1997 مديرا عاما للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولكن المنصب ذهب إلى المصري محمد البرادعي. وبعد عامين كان إسماعيل سراج الدين نائب رئيس البنك الدولي ينافس على منصب المدير العام لليونسكو مدعوما من 18 حائزا على جائزة نوبل، كان اختيار دول منظمة الوحدة الأفريقية باستثناء مصر التي انطلق من أرضها قرار ترشيح السفير السعودي غازي القصيبي، بناء على قرار مجلس وزراء الخارجية العرب في مارس 1999.

الأمر الثاني فهو ما تتمتع به دولة المرشح من سمعة طيبة في هذا المجال، ولا أظن مصر تحوز نصيبا كبيرا من المصداقية إذا تعلق الأمر بترميم الآثار وصيانتها، وحمايتها من الاعتداء البصري ولو تمثل في زحف أبراج سكنية تحجب موقعا أثريا، بدليل اللجوء إلى اليونسكو في شأن لم تحسمه الدولة الأشبه بشركة استثمارية في نهاية حكم مبارك.

ففي عام 2007 قدمت اليونسكو شروطا للموافقة على استكمال مشروع مركز القاهرة المالي والسياحي “أبراج القلعة” المواجه لقلعة صلاح الدين الأيوبي ولوحت المنظمة بحذف القلعة من قائمة التراث العالمي، إذا زاد ارتفاع “أبراج القلعة” على 31.55 مترا.

بلعبة الإلهاء والاستحمار تجري خديعة الجماهير في الداخل، فتقام مهرجانات لا يراها إلا جمهور محلي لا دور له أو تأثير في عمليات التصويت ذات المعايير الدولية الصارمة. كان المسؤول عن ملف تنظيم مونديال 2010 وزير الرياضة علي الدين هلال، وقد تخلى عن عمله أستاذا للعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وتفرغ لإنجاز مهمة عائلية، فعمل مهندسا لمشروع توريث مصر لجمال حسني مبارك، ثم فوجئ المصريون في 15 مايو 2004 بإعلان جوزيف بلاتر رئيس الفيفا فوز جنوب أفريقيا بتنظيم البطولة لحصولها على 14 صوتا، ويليها المغرب بعشرة أصوات، ولم تحصد مصر صوتا واحدا، فصار “صفر المونديال” فضيحة ومثلا للفشل.

جند وزير “صفر المونديال” مساكين وباحثين عن لقمة عيش للرقص، في مواكب محلية للدعوة إلى استحقاق مصر لتنظيم كأس العالم، وكان جابر عصفور أكثر ذكاء من تقليد ذلك السلوك البلدي، فأتى بدعم 173 مثقفا عربيا لوزيره فاروق حسني. لعبة نوعية ليس لها صدى في التصويت، ولكنها تثبت أن البعض من رموز اليسار العربي رضوا بدور الصقور المخصية، في مقابل التردد على القاهرة كل بضعة أشهر.

ردوا الفاتورة بتوقيع بيان يساند وزيرا فاجأ المصريين بإعلانه في التلفزيون عن مصادرة ثلاث روايات. ووصفوه بأنه “رجل الانفتاح الثقافي”، وفي ختام البيان قال عصفور إن “موقف المساندة نابع من أن حسني لديه مشروع ثقافي للتصالح بين الثقافات والتوفيق بين الأضداد والتصالح بين الإنسان والطبيعة والإنسان ونفسه”.ربما تكون مشيرة خطاب جديرة بهذا المنصب، إلا أنها تمثل مصر، فهل يدعمها ثقل مصري؟

لن أتناول الصورة الذهنية لمصر، وقد أصابها تشوّه لا يخلو منه أصل يعاني التصحر السياسي، في عود سريع غير حميد إلى سنوات ما قبل ثورة 25 يناير.

كتبت في جريدة “العرب” في 24 أبريل 2017 بعنوان “زيارة السيسي تختصر عمر مهرجان دولي” عن سابقة اختصار عمر مهرجان الإسماعيلية “بقرار سياسي للمرة الأولى” في تاريخ المهرجانات في أي بلد آخر له علاقة بتنظيم أنشطة ثقافية ذات طابع “دولي”. فهل اختلفت مصر مبارك 2003 عن مصر السيسي 2017؟ سـؤال أجلت طرحه حين طلبت التمهل، حتى أنتهي من كتابة المقال، وتنتهي من القراءة، فهل لديك مشروع إجابة؟

روائي مصري

8