هواة ومحترفون يتنافسون على الإفتاء والإلهاء

الخميس 2017/07/06

يتعرض بريدي الإلكتروني وصفحتي الفيسبوكية لغزوات من مجهولين، لا سبيل إلى اعتراضها أو الاعتراض عليها، وفشلتُ في إيقافها؛ لأن المرسِلين لا يأبهون لمناشداتي أن يكفوا عن توزيع خدمة لا تعنيني. وهذه ضريبة تكنولوجيا تتيح عناويننا، وتجعلنا أهدافا لشركات تسويق يهمها اتساع دوائر المشاركة، والفوز بأكبر نصيب من كعكة الإعلانات لمنتجين يرغبون في الربح، ويتقصون أموالا لا دين لها بالترويج لأي سلعة، سواء فيلات في قبرص أو مسلسلات تلفزيونية كوميدية، أو برامج يقال إنها دينية مادامت عناوينها وهيئة مقدميها يدلان على ذلك.

ما لا يمكن إنكاره أننا أسواق لمنتجات في صراع رأسمالي متوحش يتقنع بالوطنية أو الدين ويوظفهما، وأن شهرة العلامة التجارية، الشعار “اللوجو”، أهم من جودة البضاعة. وينفق الرأسمالي اللئيم بثقة وبذخ على إعلانات ترويجية لبضاعة متوسطة الجودة أكثر من عنايته بتطوير الخدمة، ويجني أرباحا لا تقارن بما يناله العاكف على تجويد إنتاج يعلن عنه بشكل غير كاف. وربما يؤدي الإلحاح على نوع مغشوش إلى تعوّد الجمهور عليه، وبمضيّ الوقت تفسد ذائقته، وتضعف قدرته على التمييز إلى حد إنكار الأصيل. ثم يأتي اختبار الزمن ولو بعد جيل، فيصحح هذا الاعوجاج.

في هذه السوق الرأسمالية يطغى النجم الديني على موضوع الخطبة، يكون أقرب إلى “حالة” استعراض؛ فلا جديد في الدين، أما الفقه فمتجدد يحتاج إلى شيء من شكوك ووقار ومثابرة لا تتوفر لنجوم الاستعراض الخطابي. أتذكر أن الشيخ محمد الغزالي، حين زار نجيب محفوظ في المستشفى بعد محاولة اغتياله في أكتوبر من العام 1994، سئل عن الشيخ عبدالحميد كشك فقال إنه “رجل جاهل”. في إشارة ربما إلى أنه ظاهرة صوتية، حنجرة عفية يتمتع صاحبها ببلاغة لفظية شكلية تشبع الرغبات الشعبية في الشعور بالعظمة والاستعلاء. وقد استخدم كشك كخطيب خفيف الظل في معركة أنور السادات لتشويه ما كان يمثله جمال عبدالناصر، ثم انتهى الرجل بزوال الظرف التاريخي، ولا تتحمس دار نشر لإعادة طباعة سيرته “قصة أيامي”، وكتبه التي تشمل خطبه وفتاواه، أما أشرطته التي كانت تصل إلى أغلب القرى في مصر فتُذاع مقاطع منها على سبيل التندر، ولا تؤخذ بجدية.

انشطر الشيخ كشك إلى سلالة من “الدعاة الكاجوال”، أبناء عصرهم الفضائي، وهم يتفقون في استخدام “عدة شغل”، تسميها الشركات والمؤسسات الكبرى “يونيفورم”، وتضم تيشيرت وأحيانا بنطلون جينز رمز العولمة، واستعارة صوت ناعم لا يليق بالرجال، وسكسوكة أو لحية خفيفة معتنى بها تماما، وابتسامة بلاستيكية مصطنعة يظنونها رمز التسامح الديني. ومن كثرة ظهورهم في الفضائيات صار لهم رواج كسلعة تطرب جمهورا كسولا، من الطبقتين العليا والوسطى العليا الباحثتين عن أمان نفسي، وأضيفت إليهما شرائح من طبقات فقيرة فقدت الأمل في الحاضر فالتمسته في ما يرويه بكثافة هؤلاء “الدعاة” عن أمجاد الماضي وفتوحاته. ولا تندهش حين تجد لافتة على واجهة مسجد في حي “الطالبية” الشعبي بشارع فيصل، تبشر المصلين بحضور “نجوم الفضائيات يلقون دروسا عقب صلاة التراويح”.

يمكن للغزالي وكشك وأحمد كريمة وغيرهم من الأزهريين أن يسموا أنفسهم “دعاة”، وللغزالي كتاب أحتفظ به منذ عام 1983 عنوانه “هموم داعية”، أما “الدعاة” الهواة فهم صناعة إعلامية رأسمالية.

يجيز الرسميون المحترفون لأنفسهم حق الإفتاء، شجاعة أو خوفا أو طمعا، ولا أعرف لأي من التصنيفات الثلاثة تنتمي فتوى دار الإفتاء المصرية مساء الخميس الماضي (29 يونيو 2017)، في نهاية يوم نَحْس بدأ بمفاجأة رفع أسعار الوقود، ولم يكن ينقص المصريين لمضاعفة اكتئابهم إلا أن تتواطأ عليهم دار الإفتاء، وتغلق في وجوههم أبواب الرحمة والتمرد؛ لأن “غلاء الأسعار ورخصها إنما هو بيد الله تعالى”.

وقد أثارت الفتوى سخرية واستهجانا، وفي اليوم التالي حذفت من الموقع الإلكتروني. لو كانت “شرعية” سليمة، فلماذا لم يبقوا عليها ويدافعوا عنها؟ وإذا كانت قد صدرت بضغوط سياسية، فمن الجسارة أن يعتذروا عنها، وماداموا قد وجدوا حديثا في سنن أبي داود، وآخر في سنن الترمذي يقول “إن الله هو المسعّر”، فيسهل عليهم العثور على “أحاديث” تأمر الحاكم بمنع الاحتكار، وتوفير السلع بسعر تراحمي، ولكن توقيت الفتوى المقترحة يتعارض مع السياسة الحالية.

بمراجعة فتاوى ومواقف الرسميين وأولهم شيخ الأزهر أحمد الطيب، والهواة بداية من ناجح إبراهيم، في اقتلاع حسني مبارك مع اندلاع ثورة 25 يناير 2011، يتضح أنهم يؤدون أدوارا في الإلهاء، ويتجاهلون دعوات تحريض حمل لواءها إمام العدل أبوذر الغفاري القائل “عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه؟”، ويتفادون الصدام مع أي سلطة سياسية أو اجتماعية، فلا يغضبون أحدا، ويقنعون بالحركة في المساحات الآمنة، فيلوذون بالمرحلة المكية كأنهم يخاطبون كفار قريش، ويبذلون ساعات البث الفضائي في إقناع المسلمين بأن محمدا رسول الله، وأن للكون إلها أدركته فطرة عجوز بقلب سليم، وهي تسأل عن رجل يتزاحم عليه مريدوه، فأخبروها أنه الإمام الرازي “وعنده ألف دليل ودليل على وجود الله”. فقالت “لو لم يكن عنده ألف شك وشك ما احتاج لألف دليل ودليل، أفي الله شك؟”. وبلغه كلامها فقال اللهم إيمانا كإيمان العجائز.

تمتد الفتاوى إلى العلم، فيستشهد هؤلاء على وجود الله بمعجزات بعض منها ذو طبيعة جيولوجية يتزعم إثباتها رجل اسمه زغلول النجار أخرجته دواليب الدولة لتبريد الفوران الشعبي المصاحب لمقدمات الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، وألهى الناس بأن العلم الحديث يؤكد وجود الله، وأن الآلاف من الجنود الأميركان في العراق اعتنقوا الإسلام.

ومن الرسائل الإعلانية التي أتلقاها ما يرسله مكتب دعاية لدى “داعية” شاب اسمه معز مسعود، كتب كلمات أغنية “يا رحلة”، والتي “تشير إلى العديد من الأسئلة الوجودية التي تشغل بال الكثير من الشباب”، وشارك في برامج ونقاشات ومؤتمرات “عالمية” في رحلته للبحث عن الحقيقة، ويعلن عن “لقاء جماهيري مرتقب لمناقشة منهج التعامل مع الأسئلة الوجودية”، وعلى من يريد الحضور أن يضغط على الرابط الفلاني. أما مشروعه الجديد في البحث الفلسفي والأسئلة الوجودية فبدأه بلقاء الأكاديمي البريطاني فلان المتخصص في علم التطور البشري، تمهيدا لكتاب عنوانه “الباحث عن الحقيقة”.

الحقيقة تشمل تفاصيل أخرى ذات طابع تجاري ينسجم مع ثقافة الاستهلاك في عصر الفرجة، وفي المقال القادم شيء من التفصيل.

روائي مصري

8