يوميّات إنسان على الشاشة

مازلنا في أمسّ الحاجة إلى الوثائقية الإنسانية وإلى المزيد والمزيد من ساعات العرض السينمائي على الشاشات.
الأحد 2021/03/21
سينما الإنسان قيمة ثابتة

في كل يوم جديد يوجد إنسان ما يدور مع دورة الحياة ويرى نفسه على شاشة أنه ما زال يدور تلك الدورة الأزليّة المكرّرة.

هذا التكرار يشبه إلى حدّ ما اللقطات في الفيلم في رتابتها وكثرة الزائد منها، فكما في الحياة هنالك أزمنة ومواقف يحاول الإنسان أن ينساها أو أنه يتمنى لو لم تكن في حياته، بمعنى أنها لا تنتمي عضويا لما تلا وما سبق من يوميّات.

في الفيلم هنالك الكثير من اللقطات والمشاهد التي يمكن التخلص منها لضمان أن يبقى الفيلم من دون ترهل ولا هبوط في الإيقاع الفيلمي.

وفق هذه البساطة ذاتها سارت السينما الوثائقية، ووثّقت كل ما يدور من حولنا، وثّقت الإنسان وهو يدور دورة الحياة اليومية، ولك أن تنظر إلى نشرات الأخبار والمقاطع الفيلمية الوثائقية التي تعرضها، وتوثيق الناس ليوميّاتهم، من هنا كان منبع الحقيقة لدى منظّري السينما في بحثهم عن السينما الأكثر مصداقية، ابتداء من أندريه بازان في تنظيراته المعلومة للواقع والواقعية الفيلمية.

بل إن تاريخ السينما الوثائقية يحفل منذ بداياته بقصص الإنسان ابتداء من الأب الروحي للفيلم الوثائقي روبرت فلاهيرتي الذي قدم يوميات لإنسان يعيش في القطب الشمالي تحت اسم نانوك ابن الشمال.

لم يكن نانوك إلا نسخة إنسانيّة معبّرة هي ما نتحدّث عنه، وهو يختصر خلاصات فلسفية عميقة يسمّيها رولان بارت في إحدى محاضراته، أنها “عملية انتزاع المظهر الوجودي من الجمال الجوهري”، وهنا كان بارت يقف بين عالمين خلاصتهما جماليات الوجود الإنساني المجسّد على الشاشة من جهة والوجود المأزوم للكائن نفسه.

إنه الإنسان الذي تقدّمه شاشات السينما الوثائقية في أشد أزمنته عسراً وذلك أيضا ما بحث عنه بارت في قراءته للفوتوغراف من خلال أعمال المخرج الرائد الكبير إيزنشتاين.

ليست المسألة في رسم صورة أي إيديولوجيا أو فلسفة وجودية، بل في تبسيط للوجود الإنساني الظاهر على الشاشات وحجم مصداقيته، بالطبع هناك مساحة البساطة والصدق في المواكبة الواعية للكائن في دورته.

من هنا كان اغتراب الفرد الجالس في صالة العرض عمّا يُعرَض أمامه، وببساطة شديدة إنهما لا ينتميان لبعضهما البعض، ولا يعبّر أحدهما عن الآخر، وبذلك دخلت الشاشات في دائرة افتراضية بعيدة عن المصداقية.

ما زلنا في أمس الحاجة إلى ما يعرف بالوثائقية الإنسانية وبحاجة إلى المزيد والمزيد من ساعات العرض السينمائي على الشاشات في مواكبة يومية للإنسان في صوره وحالاته وتجليّاته ومصاعبه وهجراته وحروبه وغاياته وأنانيته وثوريته وتخاذله وخيانته إلى غير ذلك من السلسلة الطويلة من الصور المرآوية للكائن الذي تبحث عنه السينما الوثائقية حتى الساعة.

حتى إنني سوف أتساءل في الأخير، لماذا يبتعد عنها المخرجون تلك السينما الخاصة بالإنسان، السينما الوثائقية الناضجة والعظيمة، يحسبون أنها لا تمنحهم شهرة أو أنها بلا جمهور أو أن نظام الصالات يهرب منها، لكنّها أسباب لا تغير من قيمة سينما الإنسان كما نشاهدها كلّ يوم على شاشات أعمارنا.

15