يواخيم لوف المدرّب التاريخي للمانشافت أيقونة ألمانية تغادر مع ميركل

من يقرأ ما تكتبه الصحافة الألمانية اليوم بحق يواخيم لوف، يكاد يعتقد أن هذا الرجل هو المسؤول عن نكبات المنتخب الألماني عبر تاريخه، وأنه المدمّر والمخرّب الذي حرم “الماكينات” من فرصة الوصول إلى الأدوار المتقدمة من كأس الأمم الأوروبية بعد هزيمة الألمان أمام إنجلترا الثلاثاء بهدفين مقابل لا شيء.
يواخيم لوف الذي شغل الحياة الألمانية بالقدر ذاته الذي شغلتها به المستشارة أنجيلا ميركل الشخصية التاريخية التي عبرت بالدولة الاتحادية أصعب المراحل خلال العقدين الماضيين، يغادر موقعه كمدرّب لمنتخب بلاده، بعد أن أحرز الألمان تحت قيادته كأس العالم وكأس القارات بالإضافة إلى العديد من الإنجازات الكروية الهامة.
جاء لوف إلى هذا المنصب الذي يعتبر في ألمانيا، منصبا حساسا جدا، لأن كرة القدم في هذا البلد تتمتع بمكانة خاصة وفريدة. انظر ماذا يقول المؤرخون عن علاقة الألمان بهذه الرياضة؛ إذ يعد المنتخب الألماني “أكبر منتخب لكرة القدم في التاريخ من حيث الإنجازات والأرقام القياسية وأكثر منتخب فاز في مباريات في المونديالات وأكثر المنتخبات حفاظا على مستواه على مر التاريخ”.
هذا الوصف كثير جدا على فريق لكرة القدم، فقد يصلح للحديث عن جيش جرّار أو فريق من العلماء أو مهندسي الصواريخ ورحلات الفضاء، ولا يكتفي الرياضيون بذلك بل يزيدون بأن ألمانيا تعتبر “من أقوى دول العالم في صناعة كرة القدم”، فقد شارك المانشافت في جميع النهائيات، باستثناء سنوات العهد النازي، ورغم دمار ألمانيا، إلا أنه عاد وحصد لقب بطل العالم بعد تسع سنوات فقط على نهاية الحرب العالمية الثانية. وتكرر حصوله على كأس العالم ثلاث مرات بعدها وصولا إلى عهد لوف الذي رفع الكأس الذهبية عاليا في ملعب ماراكانا في ريو دي جانيرو عام 2014.
ثقافة الانتصار
ثقافة الانتصار الألماني في عالم كرة القدم ركن أساسي من أركان الشخصية الألمانية، وجزء أساسي يقوم علـى ضرورة التحدي والفوز، فأولئك الذين لعبوا بأحذية ممزقة وملاعب بلا عشب وظفروا بكأس العالم ونالوا احترام مليارات البشر، لن يتسامحوا يوما مع من يهدّد مكانتهم تلك مهما كانت إنجازاته، حتى لو كان لوف.
استقال المدرب السابق يورغن كلينسمان فقرر الألمان تكليف مساعده يواخيم لوف بمهمة تدريب المانشافت في العام 2008. ومنذ ذلك الحين وحتى قبل يومين كان لوف هو السيد في تطبيق فلسفته الخاصة التي لم يكن يناقشه فيها أحد، احتراما وتقديرا لرؤيته، فأخرج من التشكيلة لاعبين كبار، ووضع خططا رآها كثيرون غير منطقية، وعرّض المانشافت للعديد من المخاطر والمغامرات، لكنه كان ينجو في غالب الأحيان.
عصر لوف الذي انتهى كما كتبت مانشيتات الصحف، كان لعبة لم تخل من المتعة، فالكثير من التقدير والاحترام حظي به هذا المدرّب، اتساقا مع طبيعة الألمان المنضبطة، والكثير من الصبر تحلّت به الأوساط الرياضية ومعها الجمهور الألماني، خلال مراقبة ما الذي يفعله لوف. وكان من المدهش أن الحظ بقي حليفا له، رغم إخفاقاته التي غفرها له الألمان طيلة 16 عاما درّب فيها منتخب بلادهم الأول.
وفي الوقت الذي كان لوف يخسر أمام الفرق الصغيرة، كان يلحق بالفرق العملاقة خسارات تاريخية، مثل تلك الخسارة التي مني بها المنتخب البرازيلي أمام الألمان بنتيجة 7-1 وهي أكبر خسارة تعرضت لها البرازيل على مرّ تاريخها الحافل.
وفي مباراة ذكرت الإحصاءات أن عدد متابيعها بلغ أكثر من مليار إنسان حول العالم، وهو الرقم القياسي الذي لم يكُسر حتى الآن، فباتت تلك المباراة التي جمعت ألمانيا بالأرجنتين تعرف بأكبر حدث رياضي “متلفز” على الإطلاق، حقّق لوف أول كأس عالم منذ إعادة توحيد ألمانيا، وسجّل لها أنها أول دولة أوروبية تحرز كأس العام على الأراضي الأميركية الجنوبية.
قاهر التوقعات

ثقافة التحدي في عالم كرة القدم ركن أساسي من أركان الشخصية الألمانية، فأولئك الذين لعبوا بأحذية ممزقة وملاعب بلا عشب وفازوا بكأس العالم، لن يتسامحوا يوما مع من يهدّد مكانتهم، حتى لو كان لوف
قبلها بأربع سنوات، كان لوف يوجّه إهانة كبرى لأسطورة كرة القدم دييغو أرماندو مارادونا، في مونديال جنوب أفريقيا، حين واجه المانشافت منتخب التانغو الذي كان مدرّبه مارادونا حينها، ونجمه الأبرز ليونيل ميسي.
استخف مارادونا بلوف وأبطاله، فقال في مؤتمر صحافي إن توماس مولر نجم المانشافت مجرد “جامع كرات”، وكان يجلس إلى جواره. لكن بعد ساعات فقط كانت ألمانيا تكسر الأرجنتين بأربعة أهداف مقابل لا شيء في مرمى الأرجنتين، وسط أنين مارادونا.
ولد لوف في شوناو في الغابة السوداء عام 1960، وكان هدّافا في ناديه فرايبورغ في دوري الدرجة الثانية، وحين لعب للمانشافت، شارك في أربع مباريات فقط ولكن ضمن منتخب الشباب وليس الرجال. ما جعله يبحث عن التألق خارج الملاعب الألمانية، فلعب مع فريق “إف إس فراونفيلد” السويسري، قبل أن يعتزل
اللعب في منتصف الثلاثينات من عمره. تحوّل إلى التدريب مع نادي شتوتغارت، وقاده إلى الفوز بكأس ألمانيا حتى قبل أن يحصل على ترخيص يخوله من التدريب. وواصل تألقه مع شتوتغارت حتى أوصله إلى نهائي كأس الكؤوس الأوروبية غير أن الإنجليز وكما فعلوا اليوم، كسروا شوكة لوف فهزمه فريق تشيلسي بهدف نظيف.
في أواخر التسعينات عاد لوف إلى عادته بالابتعاد عن الساحة الألمانية، فغادر شتوتغارت ليدرّب فريق فنربخشه التركي، غير أنه سارع للعودة لتدريب فريق كارلسروه الألماني، ثم غادر مجددا لتدريب فريق تيرول آنسبروك النسماوي، وحقق له لقب الدوري النمساوي لكرة القدم سنة 2002. ولفتت إنجازاته تلك أنظار كلينسمان فقرر الاستعانة به كمساعد له حين تولى مهمة تدريب المانشافت، وكانت مهمة الثنائي إعداد المنتخب الألماني للمنافسة الكبرى في نهائيات كأس العالم، التي كانت ستقام في ألمانيا عام 2006. وبعد مغادرة كلينسمان حلّ لوف في مكانه.
التوتر الذي تعبّر عنه ملامح لوف خلال مراقبته وقيادته لعناصره يعدّ من تقاليد المشاهدة في مباريات ألمانيا، ينسى لوف نفسه، ويركّز في مهمته، فتبدر منه حركات لاإرادية، وأحيانا يصل الأمر به إلى الصدام، فلم ينس العالم ذلك الاحتكاك الذي وقع ما بين لوف والحكم الرابع لمباراة النمسا مع المانشافت في بطولة الأمم الأوروبية عام 2008، حين تم إبعاد لوف خارج الملعب، ليتابع المباراة من المدرجات. الأمر ذاته تكرّر في ربع النهائي أمام البرتغال.
عقلية عنيدة
لم يكن لوف يتقبل أي منازعة له في قراراته التي اعتبرها سيادية، فأقصى العديد من نجوم المانشافت بسبب السلوك، ومن بينهم كان الهداف كيفن كوراني الذي تمرّد على أوامره، خلال التسخين بين شوطي إحدى المباريات، فأعلن لوف أن كوراني لن يلعب مرة أخرى في المنتخب الألماني. وهكذا أنهى مسيرته الكروية بقرار حاسم.
جميع النصائح التي قيلت والانتقادات التي وجّت إلى لوف، لم تلق آذانا صاغية منه، فقد كان مصرّا على ما يخطط له بنفسه، مهما كانت النتائج. وغالبا كانت تشكيلة المنتخب الألماني التي يضعها وفق أسس غريبة، هي السبب في الهجوم الحاد والعنيف ضده، لكنه لم يكن يعبأ بكل ذلك.
حتى المديح لم يكن يعجب لوف كثيرا، فالانتصارات التي حققها لم تغيّر أي شيء في طريقته في التفكير واتخاذ القرار، وحين أحرز كأس العالم تم اختياره مدرب العام 2014. لكنه بقي يتصرّف بالتوتر ذاته وكأنه لم يحقق شيئا.
لم يكن لوف وحده العنيد، بل كان الألمان أيضا مصرّين على التمسك به، فرغم خروج المانشافت من بطولة كأس الأمم الأوروبية عام 2016، من دور نصف النهائي. قرروا تمديد عقد لوف كمدرّب لأربعة أعوام إضافية، حقق خلالها كأس القارات، قبل أن يتعرّض لإحراج كبير بخروجه من تصفيات كأس العام 2018 في روسيا، مع أنه حامل اللقب، لكن لوف ومن جديد، أصرّ على البقاء في موقعه وتم تمديد عقده مجددا.
وأخيرا اعترف لوف بأنه ارتكب أخطاء أدت إلى ما حصل في مونديال روسيا، معلنا أنه سيجري تغييرات هامة على تشكيلة المانشافت، لكن الجميع فوجئ بقراره إقصاء النجوم الذين أحرزوا له كأس العالم؛ جيروم بواتينغ، ماتس هوملز وتوماس مولر.
«أيام سوداء»؟ هذا ليس تعبيرا اشتقته الصحافة الألمانية لوصف نتائج لوف، بل هي كلمات لوف ذاته، الذي قال عن خسارته بستة أهداف دون مقابل أمام إسبانيا في بطولة الأمم الأوروبية بأنها “يوم أسود قاتم”. ومنذ تلك اللحظة والنحس يلاحق لوف.
وجاء يوم أسود آخر في مطلع أبريل الماضي، حين أعلن لوف نيته الرحيل عن المانشافت مع نهاية يورو 2020. وهذه المرّة قبل اتحاد الكرة الألماني قرار لوف. وتم تعيين مساعده هانز فليك خلفا له. وكشف الاتحاد الألماني أن لوف هو من طلب إنهاء تعاقده، الذي يفترض له أن ينتهي بنهاية كأس العالم 2022.
توقع لوف أنه سيتمّكن من صنع نهاية سعيدة لمسيرته في كأس الأمم الجارية حاليا، لكن أداء المانشافت لم يكن عند حسن ظن جمهوره، فخسر أولى مبارياته على أرضه في ملعب ميونخ أمام فرنسا، وانتفض مجددا أمام البرتغال، ثم عاد وتعادل مع المجر وصعد إلى ثمن النهائي ليواجه المنتخب الإنجليزي ويخسر على ملعب ويمبلي. ولتكون هذه المباراة آخر مباريات لوف مع المانشافت.
صحيفة “بيلد” الألمانية سرّبت أنّ لوف رفض عرضا من نادي برشلونة الإسباني لتدريب الفريق الكتالوني في الموسم المُقبل. وبحسب الصحيفة، فإنه كانت هُناك مُكالمة من جانب المسؤولين في برشلونة لم يحظ باهتمام لوف، مضيفة أنّه يريد الحصول على إجازة لمدة عام أولا بعد كل تلك الأعوام مع المنتخب الألماني. ورغم ذلك فقد أعلن لوف أنه قد بدأ بالفعل في تعلم اللغة الإسبانية استعدادا لمرحلة قادمة لا يعرف أحد مع من ستكون.
لا يستسلم لوف بسهولة، رغم الأيام السوداء التي يمرّ بها، فحين اعتذر عن هزيمته أمام إنجلترا، وبعد تأكيده أن لاعبيه في قمة الإحباط الآن قال “لدينا الكثير من اللاعبين الشباب الذين سيتعلمون من هذه البطولة، في يورو 2024 سيكون بعضهم في أعلى مستوياتهم على الإطلاق، سيكونون أكثر نضجا وأكثر خبرة وأكثر قسوة”.
تحوّل لوف إلى أيقونة تصنع ألعاب كثيرة على هيئته، وتنتشر الفيديوهات القصيرة على وسائل التواصل الاجتماعي ناقلة حركاته الغريبة، وكلماته باتت جزءا من التراث الثقافي الألماني المعاصر. وبعد كل ما حقّقه، لا فرق إن فاز أو خسر، فقد حفر مكانته بجدارة في التاريخ الألماني.