يمينة ميري تخوض رحلة روحانية في عمق الصحراء

المكان عنصر هام في الحكايات والقصص، بعض الأمكنة تحفل أكثر من غيرها بالحكايا والأساطير، إذ تمثل بطبيعتها وتاريخها فضاء ملهما، كما أنها تفتح مساحات واسعة في الخيال البشري، ولعل الصحراء أبرز هذه الأماكن، حيث يعوض الخيال كل مجهول ويكمل المشهد، ومن هنا أخذت الصحارى سحر قصصها.
بعد كتابها “ستة أيام في تاسيلي ناجر”، أصدرت الكاتبة والباحثة الجزائرية يمينة ميري آيت عبدالمالك كتابها الثاني بعنوان “تاسيلي ناجر قصص وأمكنة”، لتحمله انعكاس هوسها بالصحراء وبجانت المدينة الجزائرية الساحرة في تفاصيلها البصرية والتاريخية والإنسانية.
يحتوي الكتاب، الصادر باللغة الفرنسية، على قصص لها خصوصيات الصحراء في تفاصيلها وخصوصية جانت في تصعيدها وخيالها وخرافاتها الممتعة والمثيرة، دعمتها الرسوم التي قدّمتها الفنانة الجزائرية نالية صالح التي قامت بترسيخ الرؤية البصرية للقصص من خلال التماهي الحسي الموظّف على الصور الفوتوغرافية وإعادة نسخها على الورق، وتحويلها إلى رسوم تتكاثف مع القصص المحكية وتتصاعد معها في الحبك والتشويق.
الصحراء صورة أسطورة
صاغت ميري حكاياتها بأسلوب سردي وصفي قدّته من رمل وكثبان من سراب وتيه من عشق دائم الترحال بين الرمل وألوانه وعبر البيئة واندماجها فيها حسيا علميا وإنسانيا، بين طابع الخرافة النابعة من عمق الصحراء والحياة الصحراوية التي تميّز مدينة جانت ومنطقة التاسيلي، حملت فيها المحبة التي جمعتها في كل زياراتها لسنوات من التأمل والقراءة والتلوّن والاندماج مع الحكايات التي سمعتها والأسماء والأمكنة التي رسخت في ذاكرتها واللغة “تماهاق” والمصطلحات والقصص كما الشخوص وما تحمل من ملابس وحليّ.
وصاغت حكاياتها بأسلوب يقوم على التداخل بينها وبين الأمكنة التي حفرت في ذاكرة الكاتبة روحا من بحث في ملامح البيئة وفضاءاتها، وتجلّت مع المظهر العام للشخصيات النابعة من منبتها الأول بين الأرض والسماء، الطبيعة واكتمالاتها، واحات جبال وألوان كثبان وكهوف، حتى تعزّز البقاء في الصحراء وتثبّت فكرة الحلّ والترحال بين تفاصيل البحث عن الحياة والماء والحضور والأمان.
في “جانت” أو كما يعني اسمها محط الرحال، تمتد تاسيلي في الفضاء الصحراوي المزدهر بحكاياته حيث كل شيء يثري القصص، تفاصيلها تتحرّر من حواسها الخمس فلا وقت للتيه لأن الرحال نقطة العبور نحو الخلاص، هي منفذ وانعتاق من حدود المادي لاكتشاف كم يحمل العاشق من خيال، وكم يتحمّل من حكاية استطاعت يمينة ميري أن تقبض عليها بلا تردّد وتنشرها في كتابها بشغف.
رسمت ميري بالكلمات التفاصيل الباقية في الأثر في الكهوف، في الطبيعة، في الواحات، ولم تبتعد عن اختصاصها الزراعي والأركيولوجي الذي سرّبته بحكمة وذكاء وحسيّات عالية، فلم تكن صياغة كل ذلك حاملة لطابع علمي أكاديمي بقدر ما كانت حاملة لرحلة روحانية لعاشقة شغوفة ومكتشفة مغامرة بين الأسماء ذات الطابع البصري المسافر في لغة الطوارق في حياتهم وتفاصيلها وحكايات التاسيلي المليئة بالأساطير والخرافات والغرائبية الساحرة في عشق الأمكنة، وكل ما يسيل منها من حكايا وخرافات ومرايا تعكس من مروا بعناد على تفاصيلها وحفروا ذاكرتهم الشفوية من خلالها.
اندماج مع المكان
طيلة 15 عاما حملها البحث لتتبع أثر الرمل وتقتفي حركة الرياح وتشارك تفاصيل ما رأت بهاجس حبري مهّدت له في كتابها الأول الذي كان تجربة فريدة من نوعها، غنية جدا على المستوى الإنساني والثقافي والأثري والروحي والعاطفي، رحلة تشاركيّة توثيقية مع القارئ أرادت أن تعبر منه إليه ومنها إلى عوالم الصحراء، كأنه مشارك ومعايش في نفس الوقت، تروي الظروف الجوية، وتقدم تفاصيل قيّمة عن خصائص الحيوانات والنباتات في المنطقة.
استطاعت الكاتبة أن تصف تاسيلي ناجر بطريقة عميقة مفصّلة اندمجت فيها مع الصورة من خلال التصوير الفوتوغرافي، زيّنت كتابها بلقطات مذهلة للهضبة المهيبة كما يمكن مشاهدتها من تايني، وتافاتست أو كما تسميها “الطريق إلى تجاوز الذات”، ووادي تاكبل أونفاس المتعرج، وشجر السرو في تاسيلي في تماغيت.
تجد المناظر الطبيعية السماوية التي تُظهر كل التنوع البيولوجي في الصحراء الجزائرية مكانها في تصورات الكتاب، مثل الغابة الحجرية في تين تورساتين، أو حوض ألاغ – إندامين، أو حتى الفجر الرائع في جبارين.
ركزت يمينة ميري آيت عبدالمالك على أكبر متحف في الهواء الطلق في العالم، متحف سفار، وقدّمت فيه مجموعة من الحفريات والنقوش الصخرية مصحوبة بتحليلات وأوصاف مفصلة تشهد على حضارة مذهلة مفقودة تندمج معها في انغماس رائع في عالم تاسيلي ناجر، الذي يعود تاريخ تواجد الإنسان فيه إلى أكثر من 10000 عام العصر الحجري الحديث.
وفي كتابها الثاني لم تتخلّ ميري عن هذا السحر والانبهار وتكاملت مع الطبيعة بحسيّات أكثر طفولية في اكتشاف مجاهل الأثر وجمعت كل الحكايات وصاغتها بأسلوب مثير ومدهش قادر على الاستحواذ على فضول الكبار قبل الصغار، خاصة وأنها دمجت فكرة سرد الجدّات للحكايات وتتبع الهوية والانتماء، فالحكايات قادرة على زرع المحبة وتفعيل أسلوب الانتماء وتسريب القيم الأساسية التي تدفع إلى الحفاظ على البيئة واحتواء المكان تاريخيا، أثريا، بصريا، حسيا والتماهي معه بكل الإنسانية التي ينبع منها، فالكتاب ليس قصصا فحسب بقدر ما هو إضاءة على حياة متنوّعة وتعايش مذهل مع الطبيعة وتشابه معها في الطبع والاندماج بمحبة وهدوء بحكمة وعناد وبقاء راسخ.