"ولاد بديعة" دراما الواقعية السحرية
بعد آخر أعمالها الاجتماعية “كسر عضم” بجزئه الأول الذي عرض منذ عامين ولاقى استحسانا جماهيريا عادت المخرجة السورية رشا شربتجي هذا العام بمسلسل يحمل عنوان “ولاد بديعة” تأليف يامن الحجلي وعلي وجيه في شراكة هي الأولى مع المخرجة.
يحكي العمل قصة بديعة (إمارات رزق) المرأة المتخلفة عقليا التي تزور حي الدباغات هي وابنتها الصغيرة يوم ولادة مختار ابن عارف الدباغ (فادي صبيح) أكبر دباغي الجلود في دمشق والذي يتقرب منها بحجة الشفقة عليها وعلى ابنتها التي يطلق عليها سكر ويقوم بإطعامهما ليقوم لاحقا بخداعها وإقامة علاقة معها فتنجب منه توأما من الذكور يطلق عليهما اسم شاهين وياسين ويأويهما داخل مصنع الدباغة الخاص به ويتربيا وسكر مع ابنه الوحيد مختار من زوجته الرسمية مها.
تحدث الخلافات بين مختار الابن وبين أولاد بديعة الأشقياء الذين يعنفونه ويزعجونه وكفعل انتقامي منهم يأخذ مختار الصغير قططهم الثلاثة ويقوم بشنقها وهي رغبة منه في اللاوعي لشنقهم هم، الرغبة التي ترافقه في كبره أيضا.
يكبر أبناء بديعة داخل المصنع ويعملون فيه ويكون شاهين (سامر إسماعيل) أمهرهم في مهنة الدباغة، بينما ياسين (يامن الحجلي) وأخته سكر (سلافة معمار) لا يفلحان فيها بل يقضيان وقتهما متسكعين في الشوارع يقومان بنشل الناس وسرقتهم لتعمل لاحقا سكر راقصة وياسين طبالا معها، الأمر الذي يزعج شاهين فيطردها من المنزل فتذهب للسكن في منزل عشيقها مؤيد (غزوان الصفدي) مدير الكباريه بينما مختار (محمود نصر) – في أداء استثنائي لافت – بعيد كل البعد عن هذه الأجواء وعمل والده، يقضي وقته في الرسم الذي يستهويه ويقرر دراسة الفنون الجميلة لكن يتم رفضه ثلاث مرات، الأمر الذي يعيره به والده عارف مطلقا عليه لقب الفاشل في كل شيء (دلوع الماما) الأمر الذي يؤذي مختار نفسيا فتحدث الخلافات مع والده وتستمر خلافاته مع شاهين وأخويه الذين يقيمون داخل المصنع.
يقرر مختار أن الوقت قد حان للتخلص من هذه العائلة المزعجة فيقوم بطرد بديعة وأبنائها خارج المصنع، الأمر الذي يعترض عليه والده ويبقيهم ويصفع ابنه مختار ويطرده ويقرر أن يعترف بأولاده من بديعة بعد اكتشافه إصابته بالسرطان ويعطيهم حصتهم من الميراث مثلهم مثل مختار، الأمر الذي يزعج زوجته مها (ديمة الجندي) وابنها مختار الذي ينتقم منهم شر انتقام ويقوم بقتل أمهم بديعة بجرة الغاز معتقدا أنهم كانو داخل المنزل وقتلو معها ليتفاجأ بأنه قتل بديعة لوحدها وأنهم مازالوا أحياء.
يفتضح أمر مختار بعد أن يكون أبوالوفا (تيسير إدريس) صديق والده قد شاهد جريمته وأخبر أبناء بديعة بها ليكون انتقامهم منه أشد، حيث يبرحونه ضربا داخل المصنع ويقومون بخصيه فيصبح عاجزا مدى الحياة ولم يكتفوا بذلك بل يقومون بفتح قبر والدهم عارف الدباغ الذي يموت بعد بديعة بفترة ويبصموه على وثائق ومستندات تثبت أنه كتب كل أملاكه باسمهم وعلى عقد زواج من بديعة ليكونوا أبناءه الشرعيين فيصبح تزويرهم هذا سليما.
يدخل مختار المستشفى فاقدا للوعي ومـريضا نفسيا جراء ما تعرض له على أيدي أبناء بديعة الأشقياء ثم تقرر والدته إرساله إلى بيروت للعلاج نفسيا وتخبر الجميع أنه سافر للدراسة فتصبح الساحة خالية لشاهين وأخويه سكر وياسين الذين أصبحوا من الأثرياء نتيجة استيلائهم على ثروة عارف الدباغ معتقدين أن مختار اختفى إلى الأبد ليتفاجؤوا بعودته بعد عدة سنوات.
يطالبهم مختار بحقه في ميراث والدهم والانتقام منهم على مافعلوه به لكنهم يرفضون إعطاءه المال فيتفنن بالانتقام منهم متفقا مع أعدائهم كل على حدة، فشاهين يرسل له جمعة الشاب الذي (يسرف ماله على مصارعة الديوك) لسرقة مصنع الدباغة بالاتفاق مع أبوهديل عدو عارف اللدود وعدو ابنه شاهين من بعد وسكر يسلط عليها جارها المتدين أبورياض كي يشتكي عليها بسبب اعتراضه على البار الذي تملكه والأجواء الفاسقة التي تنشرها حسب زعمه فيرسل لها جباة الضرائب ويتوعدها بإحضار شرطة الآداب لها في المرة القادمة. أما ياسين فيتفق مع فتاة الليل مروى كي تعطيه دولارا مزورا ويقوم بالإبلاغ عنه فيتم اعتقاله لكن سرعان ما يستعيد الأخوة رباطة جأشهم ويبدؤون بالانتقام المعاكس لتبدأ الأحداث بالتصاعد ويشتد الصراع بين الأخوة أنفسهم وأعدائهم.
وهذه المرة الثالثة التي تقف فيها الفنانة سلافة معمار أمام كاميرا المخرجة شربتجي في عمل اجتماعي، فمنذ خمسة عشر عاما أدت معها دور (بثينة) في مسلسل “زمن العار” الفتاة المضطهدة من أخوتها ووالدها فتتمرد على واقعها وتدخل في علاقة مع زوج صديقتها (تيم حسن) وتتزوجه سرا، وبعدها بعام اجتمعتا للمرة الثانية في مسلسل “تخت شرقي” وأدت معمار فيه دور طالبة الطب التي تحب صديقها في الكلية فلسطيني الأصل (مكسيم خليل) ليعترض والدها على هذه العلاقة ويرفض زواجها منه بسبب جنسيته.
أما في “ولاد بديعة” فإنها تؤدي دور (سكر) الراقصة سابقا وصاحبة البار حاليا المتزوجة من مؤيد (غزوان الصفدي) الذي يقوم بسرقتها واستغلالها متحججا بمرض والدته الوهمي، سكر التي وجدتها بديعة المرأة المشردة المتخلفة عقليا مرمية في إحدى حاويات النفاية يوما ما وأخذتها وربتها معها أولا، ثم مع أبنائها ياسين وشاهين داخل جدران الدباغة.
أدت سلافة معمار دورها بكل تلقائية وتميز فاستطاعت الإمساك بالشخصية وخصوصا انفعالاتها في المنامات التي تظهر لها فيها أمها تؤنبها فيها هي وأخواها لسرقة مال أخيهم مختار، فسكر امرأة طيبة لم تختر الطريق الذي سلكته بإرادتها وإنما الظروف القاسية دفعتها إليه فتتمسك بمؤيد رغم معرفتها بنذالته لأنها تحبه والوحيد الذي قبلها مثلما هي على حد قولها فتصدرت معمار بهذا الدور الموسم الدرامي السوري باستحقاق.
مسلسل “ولاد بديعة” مليء بالشخصيات وهناك شخصيات تقدم لأول مرة في مسلسل سوري كشخصية جمعة الشاب العاطل الذي ينفق كل ماله على مصارعة الديوك ويطمح لامتلاك ديك يراهن الناس عليه! وشخصية والدته أم جمعة (نادين خوري) المرأة التي توصل جلود الحيوانات من المسالخ إلى مصانع الدباغة على دراجتها ذات الخمسة إطارات في ظاهرة تحدث لأول مرة في المجتمع السوري، فلم نعتد أن تقود امرأة هذه الدراجة النارية (طرطيرة) من قبل فقد كانت تستعمل لتوزيع أسطوانات الغاز سابقا أو بيع الخضار ويقودها الرجال حصرا! وشخصية دراعي القزم الذي يحصل الأتاوات الشهرية من تجار البنزين الحر لصالح سيده أبوالهول (محمد حداقي) البلطجي الذي يعيش على الأتاوات من صغار المهربين، وشخصية الوفا الشامي (رامز الأسود) المطرب الشعبي المقيم في دبي والذي يضطر إلى العودة إلى دمشق لاحقا. وبوجود كل هذه الشخصيات نشعر بأننا أمام إحدى روايات أدب أميركا اللاتينية بكل غرابتها لكن بنسخة سورية.
ومن أهم ميزات المخرجة شربتجي أنها تهتم بأداء الممثل كاهتمامها بجمال الصورة فتؤدي كل شخصية دورها ببراعة بغض النظر عن حجم هذا الدور فتكون البطولة في أعمالها جماعية. كما أنها تحسن اختيار هؤلاء الممثلين للأدوار التي تناسبهم وهذا ما شاهدناه في مسلسل “ولاد بديعة” حيث قدم العمل بأجمل صورة من حيث اختيار الأماكن المناسبة للتصوير (كمحطة القطارات المهجورة التي يجتمع بها الأخوة) وتكوين اللقطات راسمة مشهدية بصرية خلابة والموسيقى التصويرية الجميلة لخالد كمار التي جاءت متناغمة مع المشاهد وروح النص. إذا نحن كنا أمام عمل اجتماعي تشويقي من الطراز الرفيع حصد جماهيرية كبيرة وأصبح حديث الناس.
