"وقال لي جسدي" محاولة للإصغاء إلى الأصوات الهاربة

السوري أسامة إسبر يستنطق عالمه بقصائد تعيد صياغة ما تسمعه.
الخميس 2022/04/07
الشاعر يعيد الأصوات التي يسمعها في شكل قصائد (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

الكثير من الشعراء ينغلقون على ذواتهم وتكون بذلك نصوصهم الشعرية غنائية بحتة، أسلوب قد لا يذهب بتجربة الشاعر إلى البعيد، خاصة في ظل عصر منفتح على كل الإمكانات والذوات والعوالم، ولذا تفطن بعض الشعراء إلى ضرورة الخروج إلى الآخر والانفتاح حتى على الأشياء والتفاصيل الخارجة عن الذات واستنطاقها، على غرار ما فعله الشاعر السوري أسامة إسبر.

بعد مجموعتيه الشعريتين "على طرقي البحرية" (2020) و"على ضفة نهر الأشياء" (2021) صدرت للشاعر والمترجم والفوتوغرافي السوري أسامة إسبر مجموعة ثالثة بعنوان "وقال لي جسدي".

تختلف هذه المجموعة، الصادرة عن دار خطوط وظلال في الأردن بغلاف للفنان والشاعر الأردني محمد العامري، عن المجموعتين السابقتين في أنها محاولة لاستلهام اللغة الصوفية وتوظيفها لخدمة مآرب أرضية إن صح التعبير، ذلك أن العنوان يحتوي على عبارة “وقال لي”، التي يبدأ بها المتصوف والشاعر محمد بن عبدالجبار النفري نصوصه في كتاب “المواقف والمخاطبات”.

الانطلاق من الجسد

رغم أن المجموعة موزعة على ثلاثة أجزاء وتحمل قصائدها عناوين مختلفة إلا أن خيطاً واحداً يربطها كلها

يضع عنوان المجموعة الشعرية عبارة “وقال لي” في سياق يختلف جذرياً عن السياق الصوفي ويربطها بالجسد محيلاً القول إلى “جسدي”، ما يقود إلى سياق مختلف عن السياق الصوفي، ذلك أن مرجعية القول أُطيح بمركزيتها هنا، وتحولت إلى مرجعية آنية تتحرك في سياق واقع متحول مفتوح على الاحتمالات.

غير أن الجسد الذي يقول ويملي ليس الجسد بالمعنى البيولوجي والحسي، بل الجسد بالمعنى الإنساني العميق، جسد الإنسان بوصفه عالماً يجتمع فيه الحسي والروحي، العارض والجوهري، وكل التناقضات والاحتمالات، ويحتوي على بذور فنائه، وعلى تألقه ومجده الآني، وكذلك على كونه جسداً مقموعاً ومعاقبا في سياق القمع السياسي الاستبدادي، فالجسد في النهاية جسد سياسي وجسد فكري وجسد اجتماعي وجسد مادي بيولوجي ومفتوح على كل التشكلات التي تصنعه وتبقي هويته مفتوحة.

 تتحرك المجموعة في سياق يتم فيه الإصغاء لما يقوله الجسد المتمرد على القوالب الجسدية الناطقة باسمه، المتصل بواقعه الذي جُبل بطينه وتشكل منه، وبالتالي خبره وصار قادراً على أن يتحدث عنه ويكون ناطقاً باسمه.

ينقسم الديوان إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول يحتوي على قصائد متفاوتة في حجمها وهي تتألف من مقاطع تبدأ بعبارة “وقال لي”، تتكرر على مدى أكثر من مئة وخمسين صفحة، بعد ذلك يبدأ القسم الثاني الذي جاء بعنوان “وقال لي آخرون”، وهنا تنتقل مرجعية القول من الجسد الإنساني إلى أشخاص خبروا الحياة وعاشوها كل بطريقته الخاصة.

يبدأ هذا القسم بقصيدة تحمل عنوان “ما قاله درويش على ضفة”، تليها “ما قاله مهاجر لا يستطيع الرجوع”، ثم “ما قالته أصوات المارقين”، و”ما قاله عاشق فاشل لنفسه”، وغيرها ليختتم القسم بـ”ما قاله مشرد في مدينة كبيرة”.

وتشكل القصائد في هذا القسم نوعاً من الإصغاء لأقوال أشخاص يرون الواقع بطرق مختلفة ويعيشونه شعرياً، وتتحول أصواتهم إلى أصوات موحية ومشيرة ومتعددة المناظير، وهو ما يغني وجهات النظر ويفتح القصيدة على أنوات مختلفة. ويخرج الشاعر من أناه في هذا القسم نحو أنوات أكثر تشابكاً في الواقع، عبر محاولة دؤوبة لتجسيد أصواتها.

فعل الإصغاء

تشكل القصائد نوعاً من الإصغاء للجسد وللأشياء ولأقوال أشخاص يرون الواقع بطرق مختلفة ويعيشونه شعريا

القسم الثالث من المجموعة يحمل عنوان “ما قالته الأشياء”، ويبدأ بقصيدة “ما قالته نافذة”، تليها “ما قالته شجرة تحت المطر”، ثم “ما قاله الجليد”، و”ما قالته شجرة رمان”، و”ما قاله الواقع”، وغيرها.

ويتّضح من القسم الثالث أن القصيدة أو القول الشعري ينتقل إلى سياق مختلف، ليس هو أنا الشاعر، ولا الآخر الذي ينطقه، بل اللغة والإيحاءات التي تبدعها أشياء العالم حين ننظر إليها بطريقة جديدة ونحاول استنطاقها بإخراجها من سياقها المألوف وربطها بأسئلة القلق الشعرية والوجودية.

ورغم أن المجموعة موزعة على ثلاثة أجزاء وتحمل قصائدها عناوين مختلفة إلا أن خيطاً واحداً يربطها كلها، وهو فعل الإصغاء الذي يحاول أن يقبض على شعرية هاربة من خلال هذا التماس مع عوالم الذات والطبيعة والواقع.

ويمكننا اعتبار المجموعة محاولة لاستلهام التراث الصوفي والانطلاق منه نحو آفاق جديدة لخلق احتمالات أخرى لكتابة النص، ما يخرج القصيدة من نمطيتها الشكلية ويفتحها على التعدد وعلى التشكل في مسارات مختلفة على طريق الكشف الشعري.

مختارات من "وقال لي جسدي"

بيتها

وقال لي: نافذةُ بيتها غيرُ كلِّ النوافذ وبابه غير كلّ الأبواب.

وقال لي: الضوءُ يشعُّ من بيتها والشمس تعيش فيه.

وقال لي: أراكَ تدخل بيتها وتقدّم فروض القلوب.

وقال لي: تتحدّث بقلبك وترى به وأنت تدخل إليها.

وقال لي: لجسديكما في الداخل أسفار، ثم يدخلان طور الظلمة.

وقال لي: طورُ الظلمة طورُ الاتحاد.

وقال لي: تستيقظان في غابة وتسمعان الأصوات الأولى.

وقال لي: إذا لم تسمعا الأصوات الأولى، تستيقظان في ظلّ شجرة.

وقال لي: لا أريدك أن تتذوق تفاحها ولا أن تتطوّح في ليل السقوط. فأنت في كوكبك.

وقال لي: معها اخرجْ من جلدك، تخلّصْ من فكرك، ومن كل ّ وساوسك، وتوهّجْ كالجمر.

وقال لي: الحبّ سفرٌ في أقاصي المستقبل.

إصغاء

وقال لي: انظرْ إلى الأشياء، بعينيْ الطفل وأربكْ اللغة المألوفة.

وقال لي: لا تطاردْ الكلمات ولا تهربْ منها، افتحْ شرايينك لإيقاعاتها، واحترمْ دروبها، فهي تأتي وتذهب ولن تأتي إليك إذا لم تصغ إلى الأشياء.

المعنى

وقال لي: لا معنى للحروف إلا في كلمات،

ولا معنى للكلمات إلا في جمل،

ولا معنى للجمل إذا لم تشقّ دروباً إلى المعنى،

ولا معنى للمعنى إن حمل سيفاً أو تحوّل إلى شعار، أو فُرضَ على آخر.

وقال لي: المعاني السائدة هي اللامعنى، فلا تفتح باب عقلك لها. افتحه للمعاني المرفوضة، واستأنس بها كي تستأنس بك.

وقال لي: لا اللغة لغةٌ ولا الحياة حياةٌ بين الأسوار.

أبواب

وقال لي: إذا فُتح لكَ بابٌ انتبهْ إلى الباب الذي خلفه.

وقال لي: وراء كلِّ باب قصة. فما هي قصتك؟

وقال لي: إذا رأيتَ نهر السَرْد جارياً ستكون محظوظاً إذا حصلتَ منه على شربةٍ.

وقال لي: لا شيء يجري،

لا شيء يتنفّس،

لا شيء يتكلم، لا شيء يصمت،

لا قلب ينبض، لا عين ترنو،

لا وتر يعزف،

لا قلم يكتب،

لا ريشة ترسم،

لا لون يزهو الكلّ في موقف الذهول مما يجري.

وقال لي: العالم هو المجنون وهو المصحّ.

وقال لي: إذا غضبتُ، لا تُصغِ إليَّ.

أصْغِ

وقال لي: أصْغ إلى خَفْق الأجنحة، وإيقاع التفتّح في كلِّ شيء.

ابتهجْ إن فُتِحَ بابٌ مغلقٌ أو نافذةٌ مهجورة.

إذا اعترضكَ جدارٌ اخترقْه بعين العطف.

إذا رأيتَ قناعاً، ابحث فيه عن الوجه.

كلّ صباح اغسل وجهكَ بالضوء وبدّد ليلَ نَفْسكَ.

أحزان

وقال لي: انظرْ إلى المطر الذي يهطل على الأعشاب وأصغ للتنهدات التي تخضرّ.

وقال لي: حزنك بئرٌ بلا قرار، فلا تشرب منها.

وقال لي: حاذرْ أن يغلّف الحزن قلبك بضبابه الذي لا ينجلي.

وقال لي: كلما ازدادتْ طبقاتُ الحزن ارتفعتْ أسوار الوحدة.

وقال لي: يا ورقةً تندفع،

يا ورقةً تتمزّق،

أيها اللاشيء، تمسّكْ بنسمةٍ،

اتّكئْ على ابتسامة،

أَصْغِ إلى إيقاعٍ، استقو بعناقٍ،

تدفّأ بكلمةٍ أو نظرة، وكي تكون تلوّن بألوان الكون.

ميراث

قال لي: انظر، ضوءه يُبْسَط ويُطْوى كما لو أنه سجادة في غرفة الكون.

وقال لي: إذا كان ضوءه في جرس برج الكنيسة، في هلال المسجد في احمرار الجباه، في تأمل الجالس فلماذا تظل الطرق معتمة؟

وقال لي: كلٌّ يرث ضوءه وأنت لا ميراث لك.

وقال لي: أنت في أرض التيه حيث الطرق ضائعة في ضباب الكلام.

وقال لي: الضوء حيث لا تتوقع والظلمة حيث لا تتوقع.

وقال لي: الحجر يغرق في الضوء ويغرق في الظلمة، ويظلّ حجراً.

لا تقف في خندق

وقال لي: لا تُحوّل أحزانَك إلى مرايا تبدّدُ وجهك فيها.

وقال لي: أفهمُ أحزانك، فالبيوت تُهْدم، والناس تُشرَّد، والجراح لا تتوقف عن النزف.

وقال لي: الفرح عابرٌ والألم عابر، لكن، حين لا يكون الألم جسراً، بماذا نتنبأ؟

وقال لي: لا تقفْ في خندقٍ، ولا تتحصّن وراء متراس.

وقال لي: لا تتنفَّس إلا هواء الحرية، هذا الذي تُبَخُّ عليه كلّ أنواع الروائح، وتُغْلَق إليه جميعُ الدروب. لغة الحرية

وقال لي: الحرية لغةٌ، فلماذا لا تتقنها، وتجبلْ حياتك بمعناها؟

وقال لي: حين تظمأ لا تشرب إلا من ينابيعها حتى ولو كانت سراباً.

وقال لي: هي أمامك ولا تراها، خلفكَ ولا تلتفت إليها، ورودها تتفتّح حيث لا تنظر، عطورها تتضوّع حيث لا تستنشق.

 

13