وزير وطني في حكومة لا وطنية

حديث الوزير السابق بنكين ريكاني جعلنا نرفع القبعة إليه كموظف حكومي مخلص في زمن عراقي شاذ لكنه في النهاية شريك في حكومة جماعية كشفت للعراقيين تواطؤها مع الفساد وبقيت تعمل تحت وطأته.
الثلاثاء 2021/12/28
كان يدرك بأنه محاط بالفاسدين

تسنى لي أن أشارك في حوار جماعي مع عدد من نشطاء تويتر، في مساحة صوتية شارك فيها وزير عراقي سابق في حكومة عادل عبدالمهدي.

كان عليّ أن أتراجع قليلا وأنا أستمع لهذا الوزير المفعم بالثقة بعمله، كما أنه يحمل طاقة إيجابية لا يمكن توقعها بينما يعمل وسط بيئة موبوءة بالفساد.

كيف تسنى له ذلك، وهو يعتقد أن الهزيمة ليست قدرا في بلد يتربع على أعلى مراتب الفساد العالمي. إنه مخلص في حكومة فاسدة انتفض عليها العراقيون برمتهم.

حسنا، كان عليّ أن أثق بوزير الإعمار والإسكان العراقي السابق بنكين ريكاني، وهو يتحدث بعاطفة وطنية مفعمة بالثقة. لكنه أيضا مطالب بالإجابة على الأسئلة الأهم بشأن الرثاثة السياسية القائمة عندما يكون شريكا ومساهما فيها.

من المفيد أن نتذكر هنا أحد أعضاء البرلمان العراقي السابق وهو لا يزال يملأ مواقع التواصل الاجتماعي بالضجيج المعارض بدرجة ينحدر فيها إلى لغة وضيعة وضحلة عبر شتائم للحكومة وزملائه البرلمانيين، كما أنه يحظى بمتابعة مئات الآلاف من العراقيين والعرب بوصفه الصوت الحاد والحنجرة العميقة ضد الفساد والعمالة في العراق.

كل هذا الضجيج المستمر من البرلماني السابق لا يجعله قادرا في الإجابة على أبسط الأسئلة، بكونه شريكا ومساهما في الدولة الافتراضية القائمة منذ عام 2003، فكيف له أن يجعلنا نصدق رفضه لها؟ في الواقع هذا البرلماني لا يمتلك أكثر من إجابة هزيلة حيال تلك الازدواجية التي يعيشها، أو يمثلها على العراقيين بمن فيهم السياسيون، بأن التغيير في العراق يجب أن يحدث من داخل البرلمان والحكومة وليس من خارجها. لكنه غادر البلاد بمجرد انتهاء عضويته البرلمانية، من أجل المحافظة على سلامته الشخصية. وهو محق جدا في تصرفه السليم الذي يضمن حياته، فلا أحد هناك قادر على ضمان سلامته تحت وطأة اللادولة.

اتزان الوزير السابق ريكاني وثقته بعمله المخلص كلها عوامل تحول دون أن نعيد عليه إطلاق نفس السؤال الذي يفكك فكرة البرلماني المعارض. لكن ثمة حزمة أخرى من الأسئلة يمكن مواجهة فيها الوزير الوطني في حكومة عادل عبدالمهدي اللاوطنية.

اعترف الوزير السابق بالضغوط التي مورست عليه، للإبقاء على مسؤولين غير أكفاء في وزارته، مثلما كشف كمية العقود الفاسدة التي لم تنفذ من قبل فريق الوزارة الذي سبقه

كان أولها أن اختياره على رأس وزارة الإعمار والإسكان ليس لوطنيته العالية وكفاءته في القيادة التي لم تجعل أحدا تساوره الشكوك بشأنها، بل لأنه من حصة الحزب الديمقراطي الكردستاني في المحاصصة الحكومية. وذلك وحده يكفي لتفنيد فكرة العدالة الوطنية في تشكيل الحكومات العراقية منذ عام 2003.

نعم حديث الوزير السابق جعلنا نرفع القبعة إليه كموظف حكومي مخلص في زمن عراقي شاذ يسيره لصوص الدولة، لكنه في النهاية شريك في حكومة جماعية كشفت للعراقيين تواطؤها مع الفساد والفاسدين وبقيت تعمل تحت وطأته.

اعترف الوزير السابق بالضغوط التي مورست عليه، للإبقاء على مسؤولين غير أكفاء في وزارته، مثلما كشف كمية العقود الفاسدة التي لم تنفذ من قبل فريق الوزارة الذي سبقه. فاختار أسوأ الحلول المتاحة في محاولة لاسترجاع مال الدولة المنهوب، عندما خيّر الذين استولوا على المال جراء العقود التي لم تنفذ إما بإعادتها وتعويضها بطريقة ما، أو بالعودة إلى تنفيذ المشاريع المتوقفة. لكنه للأسف لم يكشف لنا كم تحقق له من تلك النيات المخلصة، لأنه كان في حكومة لم تستمر أكثر من سنة واحدة.

كان يدرك بأنه محاط بالفاسدين، لكن ريكاني مقتنع كليا بأن العمل مع الفاسدين أقرب الطرق لإزاحتهم! من يريد من العراقيين أن يخدم وطنه يعمل مع ما متاح له اليوم في العملية السياسية، وهذا قدر شاق وصعب وطويل لكن لا خيار لنا، وفق الوزير السابق.

قال لي “علينا أن ننسى تماما أي تغيير بالقوة أو عبر الجيش لتغيير المنظومة السياسية الفاشلة في العراق”.

ومع أن كل المؤشرات عبر تجربة عمل سياسي مستمر منذ عام 2003، تؤكد أن النظام السياسي القائم في الدولة العراقية الذي قضي على ما تبقى من مفهوم الدولة، لا يمكن له إصلاح نفسه، دعك من أنه لا يريد ذلك أصلا “إلا أن تشكلت حكومة كل وزرائها من نفس سريرة الوزير موضع الحوار، لكن ما أصعب وأبعد هذا الخيار” فالفشل لا يمكن إعادة صناعته بقدر دق المسمار الأخير في نعشه والبدء من جديد.

العملية التي جرت منذ عام 2003 أشبه بمنظومة كهربائية ربطت بشكل عشوائي خارج منطق قوانين فيزياء الدولة الوطنية. صحيح أنها كانت تمنح بعض الطاقة المتقطعة، لكنها غير قادرة على الاستمرار وفق القيم الوطنية. ذلك ما نبه له بمرارة في تحليل ملهم للباحث السياسي كاظم هاشم نعمة في وقت مبكر وهو يعبر عن خشيته علنا من ترسيخ الفكرة التقسيمية. لقد عبر لي في منتصف تسعينات القرن الماضي عن خشيته المضاعفة من مستقبل تراجع الانتماء للعراق كوطن، عندها يصبح الجهر علنا لكل فئة إثنية أو طائفية أو قومية بالحق في مزاعم الانفصال بوصفه حقا ديمقراطيا.

لذلك يبدو من المنطق السياسي استبدال العملية القائمة بالكامل والإتيان بمنظومة وطنية صالحة متفق عليها بين العراقيين وتلقى دعما دوليا واضحا. لا بأس من أن تعيد الأحزاب التي ساهمت في العملية السياسية الفاشلة تقديم نفسها، لكن عليها أن تقدم مشروعها كأحزاب سياسية باسم العراق وحده وليست كمنظمات دينية أو طائفية، لتكون موضع قبول أو رفض من العراقيين.

صحيح، أنه من الصعوبة بمكان أن يتم تغيير ما جرى على مدار 18 سنة، لكن لا يمكن بقاء العراق بيد الخاطفين، والتحدث عن دولة وطنية. فالمشكلة تكمن في دستور طائفي وأحزاب دينية ومراجع تشكل دولة موازية داخل الدولة، كل ذلك تديره قوة مسلحة من لصوص الدولة.

هناك من يمكن لومه على صناعة الفشل السياسي العراقي، لكن الأهم من اللوم هو التفكير في صناعة المستقبل بإنقاذ العراق وليس بإصلاح عملية سياسية عصية على العلاج. وليس كما عبر بإفراط مبالغ فيه السفير الأميركي السابق روبرت فورد في آخر ما كتبه إثر زيارته لبغداد، عن حقه بالتفاؤل من مستقبل ما يجري في العراق!

9