ورطة الحب في رسائل نابليون إلى جوزفين

تندرج الرّسائل ضمن كتابات الذّات التي تنزاح فيها المسافة عن المخفي والمحجوب والمستتر، وإن كانت تتميز عن غيرها (اليوميات والسِّيرة الذاتيّة والمذكّرات… إلخ) بكون الذّات تصبح فيها في أعلى درجات بوحها وتعريتها نظرًا إلى التصاق أنّاتها بذاتها فتمّحي كل الخيوط الحمراء والإكراهات، كما تختلف الرّسائل عن سائر الأنواع الواقعة تحت دائرة كتابة الذّات، في كونها مرآة حقيقيّة للذّات تنعكس عليها الذّات دون زيفٍ أو رتوش.
بيروت- لأدب الرسائل مكانة كبيرة في تاريخ الأدب، لا لكونه المرآة الصادقة للنفس، أو للحياة العاطفية لصاحبها بكل تفاصيلها، وما يتخلّلها من عواطف وغرائز ومشاعر، وإنما لأنها في المقام الأول تسجيل وتوثيق للحياة العقليّة لكاتبها، ومن هنا تكشف الرّسائل عن الذوات الحقيقيّة (المحتجبة) غير تلك التي تُقدِّمها كتب التاريخ، وهو ما يتجلّى بصورة ناصعة في الرسائل التي وصلتنا لأدباء ومفكرين وقادة وسياسيين وغيرهم، ومنها رسائل نابليون بونابرت إلى زوجته التي صدرت ترجمتها بعنوان “رسائل نابليون إلى جوزفين” الصادر عن دار الرافدين بترجمة زهرة مروّة التي تكشف عن الوجه الآخر للإمبراطور.
لم يُعرف نابليون كقائد عسكري فقط أراد أن يخضع العالم لسيطرته تحت شعار الإمبراطورية الفرنسيّة دولة واحدة لا تتجزأ، بل كان مهتمًا بالعلوم والمعارف كما كان عضوًا في الأكاديمية الفرنسيّة للعلوم، وقد جمع نابليون بين صفات متناقضة، وقد لخصه وصف الكاتب فرانسوا رينيه دي شاتوبريان في عبارة واحدة “هذا الرجل الذي أحبُّ عبقريته وأكرهُ استبداده”. إضافة إلى هذا فهو كان شخصًا عاشقًا للجمال أيًّا كان وأينما حلّ، فقد عشق جوزفين عشقًا كبيرًا إلا أنّها لم تبادله عشقًا بعشق، وهو ما أشعره بالذُّل والصغر على الرغم مما حقّقه من نجاحات وإنجازات.
وصفت هذه الرسائل بأنها من أجمل رسائل الحبّ في الأدب العالمي، فهي تبرزُ العواطف الصّادقة لهذا القائد حِيال امرأة أحبّها منذ أوّل نظرة. تمّ اللقاء بين الأرملة الشّابة التي كانت في الثانية والثلاثين من عمرها، في حفل في أواخر أكتوبر 1795 أقامته في قصرها على شرف الجنرال بونابرت، صاحب السادسة والعشرين عامًا نظير تقديمه معروفًا لابنها، وأرادت أن تشكره عليه.
كانت تتمتع بصفات جذّابة وإن لم تكن بالغة الجمال. عشقه لها جعلها تقع موقعًا عظيمًا في قلبه، فهو كما يعترف في إحدى رسائله “أعيش من أجل جوزفين! أعمل من أجل الوصول إليكِ، أموت من أجل الاقتراب منك”. راقت له جسديًّا أيضًا فوجد فيها ما يهوى، فكانت الحبيبة والمعبودة التي يضحِّي لها بكل شيء، ومرجعه الوحيد مع كل خلافاتهما وإخفاقاتهما، لعبت جوزفين في حياة الجنرال دور العشيقة والزوجة على الرغم من أنها أخفقت في أن تكون أُمًّا للإمبراطور.
اسمها “جوزفين تاشر دو لا باجري”، كانت أرملة وأمًّا، تزوّج بها عام 1796، وبعدها عُين قائدًا للجيش المرابط في إيطاليا فسافر إلى هناك، أما هي فبقيتْ في باريس، وحيال هذا البُعْد لم يَعُدْ قادرًا على الاستغناء عنها، وكأنه “شرب جرعة من سحرها ويريد أن يجدّد نشوته”، فلم يجد حِيلة سوى الرسائل، يستدعيها فيها، ويُعرب لها عن أسفه ويصرخ برغباته المستثارة لدى قراءة رسائلها المليئة بالمداعبات، فكانت الكتابة تُحَسِّن وضعه النّفسي.
القائد العاشق
تبدأ الرّسائل قبل زواجهما وتنتهي بعد طلاقهما، وقد امتدت الرّسائل بينهما مدّة طويلة ما بين عامي 1795 و1813. حافظَ نابليون طوال الرسائل على عهده لها، وإظهار حُبّه على الرغم من تبدُّل معاملتها له، وكذلك حافظ على مخاطبتها بالإمبراطورة في تأكيد على مكانتها لديه. وقد ركّزت رسائل ما بعد الطلاق على صحتها وأحوالها الماليّة، وكان حريصًا فيها على مخاطبتها بالصديقة؛ لذا حرص على إخبارها بتطورات حمل زوجته إلى ولادتها بابنه الذي أخذ كثيرًا من صفاته، ودومًا يذكرها بأن مكانتها ما زالت على ما هي عليه، ولا يجب أن تشك في هذا مطلقًا. وكان يظهر أحيانًا بدور السند لها والداعم في مرضها وفي أحزانها، فيعذبه حزنها على وفاة نابليون الصغير. ويمتد غضبه على برودها في استقبال انتصارات الجيش الفرنسي ويصفها بالأنانيّة، لأن هذه الانتصارات لم تجذبها.
لا تكمن أهمية هذه الرسائل في إظهار صورة القائد العاشق الرومانسي، الذي تتدفق من بين يديه كلمات الهُيام والعشق والوله، وهو القائد الحربي الذي يُكبِّد أعداءه الخسائر في الجنود والعتاد، وإنما أهميتها تأتي من كونها تسجيلاً كاملاً ودقيقًا لمعارك نابليون بيده بعيدًا عن تدوينات المؤرخين، فيمكن قراءة الرسائل من إحدى جوانبها على أنها يومياته في المعارك، حيث لا تغفل الرّسائل ما يقوم به من معارك وتجهيزات لمعارك جديدة ضدّ الإنجليز والألمان والنمساويين وكيف دحرهم، ونلمح فيها نبرة الفخر بهذه الانتصارات والخسائر، التي يكبدها لأعدائه حتى إنه يحصي الغنائم التي يحظى بها بعد فرار أعدائه، وهو ما يشعره بالنشوة. وهذا واضح في العبارات التي يستخدمها مثل (فروا، اندحروا، سحقتهم، أعدائي تقهقروا).
الشيء الوحيد غير المفسَّر مع تعدّد أماكن الرسائل، هو غياب الرسائل أثناء حملته على مصر، فنابليون قَدِم إلى مصر عام 1798، ورحل عنها عام 1801، خاصة وأن تاريخ بداية الرسائل هو 1795، أي قبل سفره إلى مصر أصلاً، واستمرت حتى عام 1813، في ظني أن سبب غياب رسائله إلى جوزفين في هذه الفترة هو انشغاله باليوميات التي كان يكتبها في مصر وهي ما عرفت بـ”الأوامر العسكرية اليوميّة لنابليون بونابرت في مصر بين 1798 و1799″، وفيها تسجيل دقيق لأخبار الحملة في مصر، إضافة إلى رسائله إلى القادة كليبر ومينو وجينو ويوسف باشا الصدر الأعظم، إضافة إلى حكومته التي كانت رسائله أشبه بتقارير حربية يرسلها إليها واصفًا فيها تطورات الحملة والعقبات التي تواجه الحملة خاصّة مناوشات الأعراب والبدو وتحرشاتهم بجيشه، وما يحتاجه من إمدادات عسكريّة وغيرها.
أصل هذه الرسائل مأخوذ من الرسائل التي كانت في حوزة الملكة هورتانس، إضافة إلى رسائل أخرى عثر عليها أحد خدام جوزفين في قصر مالميزون بعد وفاتها عام 1814. وقد اتسمت الرسائل بطابع البرقيات (الأسلوب التلغرافي)، وهذا ناتج عن أن الإمبراطور كان يتنقّل كثيرًا في ميادين القتال، ومع هذا فقد كان حريصًا على أن يُرسل إليها الرسائل يبثها أشواقه، وفي نفس الوقت يطلعها على مسيرة تقدُّمه في المعارك.
◙ الرسائل قدمت جانبا مجهولا من شخصية القائد العسكري المغوار وكشفت عن هشاشته وضعفه أمام سطوة الحب
انعكس طابع البرقيات على الرّسائل، فغلبَ عليها القصر، فأقصرها لا تتجاوز السّطر ونصف السّطر، على نحو رسالته المؤرّخة من بورغوس في الرابع عشر أكتوبر 1808، ويتحدّثُ فيها عن الطقس وتحقيق بعض النجاحات وصحته، والغريب أنها جاءت بدون أن يختمها بأي شيء كعادته. أما أطولها فلا تزيد عن صفحة ونصف.
جاءت الرسالة الأولى بلقبها “الفيكونتيسة جوزفين دو بوهارنيه” وكانت مؤرخة في الثامن والعشرين أكتوبر عام 1795 وهي على ما يبدو بعد أن تمّ اللقاء الأول بينهما، وفيها يطلب منها أن يكون صديقها، بل يتوسل إليها أن تخبره بأن لا أحد غيره راغب في صداقتها بقدر ما هو راغب، وأن لا أحد مستعد أكثر منه لأن يفعل أي شيء من أجل إثباتها. ويتأسف عن كثرة مشاغله التي لولاها لكان جاء بنفسه لتوصيل رسالته.
الرسالة تكشف عن تأثير هذا اللّقاء عليه، وحرص نابليون على أن يكون الوحيد في حياتها، ومن أجل هذا فهو مستعد لأن يفعل أي شيء، بل تذهب العواطف الملتهبة التي يظهر بها نابليون في رسائله إلى أبعد من كون العلاقة صداقة، فهو يستيقظ “ممتلئا بها” فحضورها والسهرة المـُسْكِرة – كما يقول – لم يتركا أحاسيسه هادئة. فيعترف لها بأنّ “تأثيرها مدهش” بل هي مصدر الرّاحة والطاقة له، فقلبه مُحطّم من الألم وما إن يستسلم للشعور العميق الذي يسكنه، حتى ينهل “من شفتيك ومن قلبكِ”، كما يقول لها.
وبعد الزواج تأخذ الرسائل صيغة أخرى، هكذا (إلى المواطنة بوهارنيه)، ويبدأ فيها شكواه ببُعدها، وعدم وجود القوة الكافية لاحتمال هذا البُعد، كما يبدأ الاستفسار عن أحوالها الصحيّة، ويُبدي قلقه عليها، وفي ختام رسالته يطلب منها رسائلها الطويلة، ويصفها بصديقته الحنونة، ويصف نفسه بأنه الأصدق حبًّا وأكثره حنانًا. وفي المقابل يطلب منها أن تحبُّه كما تحبّ عينيها “مِن روحك مِن حياتك مِن كُلك”، وكأنه يودّ أن يتملكها، ثم تأخذ صيغة الخطاب في التغير هكذا “المواطنة بونابرت”، وصولاً إلى الإمبراطورة، ثمّ تتعدّد الأوصاف التي يصفها بها، فهي المرأة العذاب، والسّعادة الأمل، و”روح حياتي التي أحبّ وأخاف منها”، ورفيقته الوحيدة التي اختارها القدر، ومع هذا فلا يطلب منها حبًّا أبديًّا، وإنما يريد صدقًا، صدقًا بلا حدود.
الغائبة الحاضرة
يركز نابليون دائمًا في رسائله على أحواله وهي بعيدة عنه، وكيف أنها دائمًا تسيطر على خياله وعقله، ولا تفارقه صورتها في صحوه ومنامه، بل إنه لم يمضِ يومًا دون أن يُحبها، ولا ليلة دون أن يضمها بين ذراعيه، فهي حب حياته.
صورتها لا تفارقه حتى وهو غارق في العمل في المعسكرات، فهي وحدها التي تكون في قلبه، وتسكن روحه وتستنفد تفكيره. يعاتبها في رسائله على أنها تخاطبه بصيغة الجمع (أنتم) ويصفها بالشريرة، كما يكشف عتابه عن ضيقه لعدم مراسلاتها خلال أربعة أيام، ويسرد لها عن استعداداته للمعارك، وخططه للجنود، وكذلك عن اهتمامه بالجنود، وتزويدهم باللحوم والخبز والعلف، وأحيانا يصف لها تحركات الجيش. يمرر لها أحيانًا طرفًا عن عائلته، فيذكر لها سعادة أخيه بزواجهما، وإنجابه طفلاً، ويشكو لها أن بسبب اهتماماته لم يكوّن صداقات، لذا ينصحها بأن تنشئ صداقات مع الجميع.
على الرغم من المهمّة التي كان على رأسها بونابرت بوصفه قائدًا للجيش، وما تمليه عليه من قرارات وأوامر وخطط وتنظيم المناورات وقتال العدو، وقصف المدن، ومع كل هذا إلّا أنه يكتب لها.
لا تقف الرسائل عند الكشف عن شخصية نابليون العاشق والوله بجوزفين الذي يدّخِر لها الوقت من ضمن مشاغله الحربيّة الكثيرة كي يُفضي لها بمشاعره، ويأتنس بحضورها، وإنما تتجاوز هذا لتكشف لنا صورًا أخرى عن القائد والجنرال، صورة الأب الذي أفرحه خبر الحمل، ونمّى في داخله مشاعر الأبوّة، ثم هوى الحلم إلى القاع بعد أن فقد أمل الإنجاب، مشاعر مُتّقِدَة تجسّدت في صورة بكاء على ابنه نابليون الصغير من زوجته والذي مات بمرض الخناق في لاهاي، وكذلك القائد الذي يفتخر بقوّاده ويثني على أفعالهم، ويحزن لما يتعرضون له من أَسْر أو وفاة، وإذا أصيب أحدهم يحزن ويتأسّى لذلك، كما يرثي مَن يفقده في المعركة مُظْهرًا فضائله، كما تكشف عن وفائه معهم بصلته بأسرهم ومحاولة الإطمئنان عليهم، شوقه لها وحرصه على أن تأتي إليه في ميدان المعركة لا يمنعانه من نصحها بالتؤدة، لأن الطريق طويلة وسيئة ومتعبة، فهو يفكر في راحتها مع أنه مشتاق لوصلها، فسعادته الحقيقيّة أن تكون سعيدة، وفرحته في أن تكون مرحة، وعندما يعلم بأنها حامل يطلب منها ألا تتحمل وعثاء الطريق، مع أنه سيُحرم من بهجة رؤيتها. كما تظهر غيرته بسبب قلة رسائلها، والتي يرجعها إلى ثرثرتها مع زوّارها والاستماع إلى هراء وحماقة مئة تافه، وهذه الغيرة تظهر جانبًا مهمًا لبونابرت يتعلّق بنظرته إلى العلاقات الاجتماعيّة والتقاليد العامة، فهو يرى أنّ المرأة يجب أن تراعي التقاليد حيث يأوي الجميع إلى منازلهم منذ العاشرة مساءً، وأن المرأة يجب أن تكتب لزوجها، وتُفكّر فيه وتعيش من أجله.
◙ نابليون جمع بين صفات متناقضة وهو ما تؤكده رسائله التي تكشف عن خفاياه الشخصية وانكساره رغم انتصاراته
مع توالي رسائله إليها، في مقابل ندرة رسائلها سيطر عليه هاجس الخوف من أن تخفت جذوة حب جوزفين له، فراح يصرُّ في كل رسائله على أن ينقل لها أحاسيسه إزاء هذا الهاجس الذي يصل به إلى الموت “إن لم تحبه”، ثم أخذ الإحساس يتماهى لديه، فوصل إلى شكوى مستمرة من برودة رسائلها والتي تجعله في حالة سيئة، فيتكرر في معظم رسائله أنها لا تحبه، وأنها تتهرب منه بعدم الكتابة إليه، وإن كتبت فرسائلها قصيرة “كتبت بيد مرتجفة”، وأمام هذا الصلف والصدود راحت شخصيته القوية تنهار وتهتز، ووصل به الأمر إلى مطالبتها بأن تتنازل عن عليائها، وأن تهتم بعبيدها.
التناقض بين ولعه بها وعواطفه المتّقِدَة لها، وصدودها وإعراضها عنه، بل وبرودة رسائلها كما وصف بونابرت، جعلته في حالة من القلق وهو على أعتاب معارك فاصلة، فيتوقف ويرسل لها رسائل عتاب تنبئ عن خيبة أمل وحسرة على هذا المآل الذي وصل إليه، ومع هذا فهو لا يدّخِرُ أيّة وسيلة لمحاولة استعادتها أو على الأقل تحريضها لأن تغيُّر مشاعرها إزاءها وتبدّلها كما يطلب، فيذكر لها معاناته وعذاباته بسبب هذا البعد والإعراض، وأن حياته مُتعلِّقة بحبها، ودونها يُفضّل الموت، ولكن هيهات! فلا تستجيب وتستمر في حالاتها التي لا نعرف سببها، فيضطر لأن يقول لها إنها صنعت تعاسته، ويقسو عليها قائلا “لماذا جعلتني أنتظر شعورًا ليس لديك؟”، فقد أوصلتْ إليه بتجاهلها وعدم حرصها على الالتحاق به، بأنه منبوذٌ، بل هو أقل ضعفًا، هكذا بدأت تنسحق ذات المحب في مقابل توغله في المعارك والانتصارات.
العشق المدمّر
على مدار الرسائل نتقابل مع ذاتين متناقضتين؛ الأولى هي ذات المحارب والقائد الشجاع الذي ترك عروسه في اليوم الثاني ليلحق بميادين القتال، وهو الحريص على وحدة الجمهورية كما يزين رسائله “واحدة ولا تتجزأ”، وذات الإنسان العاشق المحب، وهي الذات الضعيفة أمام سلطان الحبّ الذي أذله وجعله يتوسّل ويتذلّل رضا وقرب جوزفين، فيقول لها “أتوسّلُ إليكِ راكعًا”، ومرّة أخرى يتوسّل أنْ تكتب له؛ لأن بكتابتها “تنتشله من الألم”. بل يكتب بألم ما حاق به جرّاء هذا الجفاء، فقلبه تحطّم، وصار منبوذًا بل صار يشعر بأن قيمته أقل، وقوته تتضاءل، ومع شدة آلامه إلا أننا نراه أسيرًا لها، ويعتذر عن الألم الذي تسببه لها رسائِلُه، أو حتى ما يمكن أن تستشفه من رسائل مضمرة عن آلامه وشكواه.
فيقول لها “إذا كانت رسائلي قد أتعستكِ فها أنا بلا عزاء لمدى الحياة”، وهو ما يجعله يشعر بأن الألم لا حدود له في روحه. الغريب أنه يلتمس لها الأعذار ويعنِّف نفسه على سوء الظن بها، ولا يكتفي باللّوم وإن كان يطلب منها أن تسامحه مبررًا أفعاله.
وصدى تقلباتها ينعكس على مزاجه الخاص رغم الانتصارات التي يحرزها جيشه، والترقيات والنياشين التي ينالها، لكن على المستوى الشخصي، فهو شخص تعيس، وحياته كابوس دائم، فقد أكثر من الحياة أكثر من السعادة. لا يمكن اعتبار الكثير من العبارات من قبيل “لا أقوى على العيش بدونك، ولا أكاد أستوعب كيف وجدت دون أن أتعرف إليك، أو اليوم الذي تتوقفين فيه عن الحياة سيكون يوم موتي، أنا مريض جرّاء مرضك، العيش دون تفكير بك سيكون بالنسبة إلي الموت والعدم إلخ…” من نوع المبالغة في الحب، فحقيقة الأمر أن حالة الوله التي يقع فيها المحب تجعله لا يفصل ذاته عن ذات محبوبه، بل هذا التوحّد والتماهي من صفات الإغراق في الحب، ومن ثمّ لا غرابة أن نسمع مثل هذه العبارات التي على الجانب المقابل تعكس حالة الضعف والهوان والذل التي يشعر بها المحب، فلولا محبوبه ما كان، وفي غيابه يفقد ذاته وسعادته إلخ.
حرصه على الاهتمام بها لم يتغيّر بعد الطلاق، فمعظم رسائله إليها بعض الطلاق كانت تدور حول هذا المحور، صحتها وضعفها ويتمنى أن ترتفع معنوياتها، ويشعر بالحزن عندما يعلم ببكائها، كما أنه يُلبّي طلباتها لصديقاتها، ويتكي دائما في نهاية رسائله على ضرورة اهتمامها بصحتها، كما يُمرِّر لها بين فترة وأخرى أنّه على عهده بها، ولا تشك في مشاعره نحوها. خوفه عليها لا يُقدَّر، فينبهها كيف تستبقل ضيفها الشاب “كولانكور” في الحادية عشرة وهي لا تستيقظ قبل الواحدة ظهرًا.
يمرر بونابرت في رسائله عبارات مقتطفة من أشعار، ومن كتابات على نحو مقولة لا برويار “بأن الحب يأتي دفعة واحدة”، وغيرها من عبارات وأبيات شعرية، وهو ما يكشف أن القائد الحربي لديه إلمام رفيع بالثقافة، ولو لم يكن هكذا، ما كنا وجدنا مثل هذا الجمال في الرسائل ولا الرقة في وصف المشاعر وما تصل به إلى التحليق في السماوات، والهبوط إلى الحضيض. ولا يتورع أن يكشف لها بعضًا من العشق الحسي لجسدها، فدائما يبعث لها قبلات، ويطالبها بأن تنثرها على جسدها وفي أماكن خاصة محبّبة لديه، كما يذكر لها ذكرياته الصغيرة لغابتها السوداء، ويهديها ألف قبلة.
تتبدّل الرّسائل مع تقدُّمه في الغزو، كما يقل عدد كلماتها، كأنه في عجلة من أمره، فمع توغله في المعارك يسرد بإيجاز شديد سواء ما حققه من مكاسب وما خسره هو وعدوه من جنود، إلا أنه ما زال يستمد قدرته على المواصلة بوجودها، ومن ثم كان إصراره على الرسائل، فيتخفّف من لقب القائد العام للجيش في إيطاليا، أو الوصف العريض للجمهورية، ويكتب إلى جوزفين مباشرة. التطور الآخر هو ذكر تفاصيل ميدان القتال، فيسرد لها عن تحركات الجيش والانتصارات التي حقّقها، والمعاهدات التي أبرمها، كما تنتابه أحيانًا حالات من الغضب بسبب تأخّر رسائلها فيصفها بصفات قاسية من قبيل “لم أعد أُحبك أكرهك أنت قبيحة خرقاء حمقاء مهملة”.
◙ الرسائل تقدم صورة نابليون القائد العاشق الرومانسي وتأتي كتسجيل كامل ودقيق لمعاركه بعيدًا عن تدوينات المؤرخين
مع نيله لقب إمبراطور اتسمّت الرسائل بالقصر فصارت أشبه ببرقيات، يخاطبها فيها بلقب إمبراطورة، لكن غلب على الرسائل طابع اليوميات حيث يسجل فيها ما تمّ إحرازُه من نصر، أو ما يفعله من مقابلات ورحلات صيد، أو ما يبرمه من هُدن، الشيء الوحيد الذي لم يتغير هو القُبلات التي يرسلها لها في نهاية الرسالة. والرغبة في لقائها، ومع الرسائل الأخيرة يختفي إرسال القبلات، ثم يحدث تطور مهم في مضمون الرسائل التي تقترب من وظيفة التلغراف في التبليغ، كما تختفي في نهايتها جملته الأثيرة وداعًا صديقتي الطيبة وألف قبلة لك، ويحلُّ بدلاً منها وداعًا صديقتي، كلّ شيء لك.
جذوة الشّوق تختفي تماما، وتغيب معها العواطف الملتهبة التي كانت متقدة مع بدايات الرسائل، وهو ما ينعكس على اللغة، فتصبح تقريرية أشبه بلغة البيانات واللغة العارية من المجازات والاستعارات، انظر مثلا هذه الرسالة، بتاريخ السابع والعشرين أكتوبر 1807 “سأقوم بجولة في بولندا، هنا أول مدينة، وسأكون مساء في بوسن، وبعد ذلك سأدعوك إلى برلين لتصلي إليها في نفس النهار الذي سأصل فيه، صحتي جيدة، الطقس سيء بعض الشيء والمطر يتساقط منذ يومين. أعمالي تجري بشكل جيد، الروس يهربون”.
ومع حبّه لها إلا أن غيرته تدفعه إلى أن يُقدّم انتقادات لبعض تصرفاتها خاصّة في استقبال السيدات والثرثرة، وهي نصائح تكشف عن الشخصية الحازمة، ويرفض أن ترتبط بعلاقات مع سفراء وأجانب، فهذا الأمر بالنسبة إليه يزعجه. وعندما يستبدُّ به الغضب يصفها بأنها “شريرة مُستبِدة ومتوحشة، ووحش صغير وجميل، والمرأة القاسية”. وهذا التباين في أوصافها ما بين نعتها بأرق الصفات من قبيل المرأة المعشوقة، حبيبتي، صديقتي الأعز صديقتي الطيبية، ومحبوبتي، إلى نقيضها يكشف عن جنون الحب الذي وقع فيه ويعاني منه، فقد سيطر حبّها على كل جوانحه، لذا يعترف أنّ ما ينقصه كي يكون سعيدًا هو حبّ جوزفين. الطريف أنّه يعلم سبب هذا التبدّل فكما يقول “نزوة جعلتك تحبينه، وعدم ثباتك يجعله غير مهتم”.
ثمّة تناقض بين غيرته التي تجعله يُذكِّرها بتقاليد البلاد وعادات النساء، وأن يقرّ في سبيل أن يرفع غمامة الحزن عنها بأنّه مستعد لأن يقدّم لها عشيقًا، لكن ما يلبث أن يعود ويقول لها “أنتِ تعرفين جيدًا أنني لا أستطيع رؤية عشيق لك، أو على الأقل تقديم عشيق لك، سيكون سيان عندي تمزيق قلبه أو رؤيته”.
لا شكّ أن القيمة الحقيقية لهذه الرسائل أنها قدمت جانبًا مجهولاً من شخصية القائد المغوار، وكشفت عن هشاشته وضعفه أمام سطوة المحب، على عكس ما بدا في ميادين القتال، ومن هنا أكرر بأن الرسائل هي أصدق أنواع كتابة الذات، وأنها هي المرآة الحقيقية للذات، تنكشف الذات فيها بلا مواربة أو خجل أو أقنعة.
