وجيه يعقوب السيد لـ"العرب": الرواية قادرة على تجسيد أعقد المشكلات وأدقها

تساؤلات كثيرة يطرحها الزخم الذي يحفل به المشهد الروائي المصري، حيث مازالت مقولة الناقد الراحل جابر عصفور التي أطلقها في ثمانينات القرن العشرين "إننا نعيش في زمن الرواية" حاضرة بقوة، الأمر الذي ألقى بتأثيراته على الأجناس الأدبية الأخرى وفي مقدمتها الشعر وأيضا على مواكبة الحراك الثقافي والإبداعي عامة. في هذا الإطار كان لـ"العرب" حوار مع الناقد والأكاديمي المصري وجيه يعقوب السيد.
قدم الناقد وأستاذ النقد الأدبي ورئيس قسم اللغة العربية بكلية الألسن في جامعة عين شمس وجيه يعقوب السيد العشرات من الكتب النقدية لتجليات الإبداع، رواية وشعرا وقصة ونقدا مصريا وعربيا، من بينها “الرواية والتراث العربي” و“الرواية المصرية في ضوء المناهج النقدية الحديثة” و“مناهج النقد الروائي” و“سرديات الرواية العربية” و“الرواية والتراث العربي” و“قضايا الرواية المعاصرة”.
بداية يؤكد يعقوب أن النقد هو علم ومنهج متبع في دراسة النصوص، وليس مجرد آراء أو انطباعات يبديها الناقد مهما كانت وجاهة وسداد هذه الآراء، ولا شك أن الاحتكام إلى المنهج النقدي الصحيح سيجنبنا الانزلاق إلى مهاوي الأحكام الشخصية وفرض الذوق الخاص بالناقد على النص قدر المستطاع، والمناهج النقدية كثيرة ومتنوعة وتصل إلى حد التناقض أحيانا؛ فهناك المناهج السياقية التي تنظر إلى الظاهرة الأدبية باعتبارها نتاج الظروف الخارجية، اجتماعية أو سياسية وغير ذلك، وهناك المناهج النسقية التي تعزل النص عن سياقه وتنكفئ على النصوص باعتبارها ظاهرة لغوية فحسب، ومن ثم تنظر في البنى اللغوية ولا تتجاوزها.
ويضيف “لقد شكا يوسف إدريس من هذه الممارسة النقدية التي اتبعها أحد النقاد الغربيين في تحليله لأعماله الإبداعية وشبَّهه بالطبيب الذي يحلل جثة هامدة بلا روح، وهناك مدارس تسعى لتجاوز هذه الثنائية وتمزج بين الأمرين كما هو الحال في البنيوية التكوينية، وأنا شخصيا أفيد من كل هذه المناهج النقدية، وأعتقد أن المزج بينها يصب في مصلحة النص نفسه، وأعتقد أيضا أن لكل تجربة إبداعية خصوصيتها والمنهج الذي يناسبها، لذلك من الخطأ تعميم الطريقة والأسلوب على التجارب المختلفة، وقد أوضحت هذا الأمر بالتفصيل في أحد كتبي وهو: مناهج النقد الروائي".
كتابة الرواية
يقول يعقوب “في بداية مشواري الجامعي كنت منجذبا بشدة تجاه الشعر، وقد اخترت موضوعا للماجستير نال إعجاب أستاذي المرحوم الدكتور محمد عبدالرحمن شعيب، الذي أشرف علي في الماجستير والدكتوراه فيما بعد، وكان عنوان هذا الموضوع: ظاهرة الشعراء الصعاليك في العصر الحديث، ولم يكن أحد قد طرق هذا الموضوع من قبل حسب علمي، وكنت متحمسا جدا لإنجازه والتقيت بعدد من الأدباء والنقاد والمشرفين على الصفحات الأدبية في الصحف المصرية لأخذ رأيهم والإفادة منهم، ومن بينهم الدكتور عبدالعزيز شرف والدكتور يسري العزب والدكتور محمد الجوادي، وقد أعجبهم الموضوع جدا وشجعوني على الاستمرار فيه وأمدوني بمراجع كثيرة حوله وأشاروا علي بدراسة شعراء بأعينهم".
ويتابع “ثم فجأة انصرفت بكليتي إلى دراسة الرواية خاصة بعد أن تعرفت على الأستاذ جمال الغيطاني وأعجبت بمشروعه الروائي، فكانت البداية دراسة ظاهرة استلهام التراث في روايات جمال الغيطاني وجيل الستينات، ثم تنوعت الدراسات بعد ذلك لتشمل عددا غير قليل من الروائيين من مختلف الأجيال: نجيب محفوظ ورضوى عاشور وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم وإسماعيل مظهر وفتحي غانم وإبراهيم الكوني وغيرهم، ويمكن القول إجمالا إن الرواية العربية قد تطورت كثيرا وأصبح لها حضور قوي ومؤثر محليا ودوليا، وهذا التطور يرجع في نظري إلى ما بذله جيل الرواد من جهود ضخمة لترسيخ تقنيات هذا الفن وتفرقتهم بين الحكاية والحدوتة والرواية بمعناها الفني”.
ويتفق يعقوب مع مقولة الناقد والمثقف جابر عصفور في أننا نعيش في زمن الرواية، “وهذا الزخم الروائي له أسبابه المعروفة والمفهومة وعلى رأسها تطور تقنيات السرد في العقود الأخيرة وتنوعها، وملاءمة هذا الجنس الأدبي للتعبير عن القضايا الاجتماعية والإنسانية الشائكة، وفي رأيي فإن الشعر -المنافس الأول للرواية- فن نخبوي، ولهذا السبب ربما تحول عدد كبير من القراء والكتاب عنه إلى فن الرواية بوصفها فنا شعبويا رائجا، على أننا يجب أن نفرق بين الحكايات التي يدونها بعض الكتاب والرواية بمعناها الفني التي تخضع لمعايير ومقاييس فنية صارمة”.
ويرى أنه من الطبيعي أن يكون لكل عصر ما يناسبه على كافة المستويات؛ فالإنسان بطَبْعه سريع التقلب وكثير الملل، ومن ثم نجده يسعى دائما للتغيير في مظاهر العمران والأزياء والطعام وأساليب الكتابة والتعبير. ويبين أنه في وقت من الأوقات كانت كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة والمقامات والخطبة والرسالة هي المتصدرة والمعبرة عن أذواق القراء، ثم ظهرت فنون نثرية أخرى وموضوعات جديدة ومعالجات أدبية مختلفة، ويمكن القول إن مرحلة الستينات والسبعينات كانت مرحلة تجريب واستكشاف لطرائق جديدة وحداثية في التعبير، تارة باستلهام التراث كما هو الحال عند جمال الغيطاني والكثير من أدباء جيله، وتارة بإدخال الوثيقة والسيرة الذاتية في السرد كما هو شأن صنع الله إبراهيم، وتارة بأسطرة الرواية وإضفاء أجواء عجائبية على شخوصها وأحداثها كما هو الحال لدى يوسف القعيد وإبراهيم الكوني وغيرهما.
◙ الرواية العربية تطورت كثيرا وأصبح لها حضور قوي ومؤثر محليا ودوليا والفضل يرجع إلى ما بذله جيل الرواد
ويتابع "لا شك أن هذا الجيل قد مهَّد الطريق أمام الجيل الحالي من الكتاب وعبَّده لهم، فلم يتقيدوا بالأشكال التقليدية من الكتابة وكان لهم عالمهم الروائي الخاص الذي يعبر عن همومهم ومخاوفهم وتطلعاتهم، غير أن الكتاب المجيدين في هذا الجيل قليلون للغاية، ومؤكد أن بقاء أعمالهم قيد الذاكرة سيكون من أكبر التحديات أمام الكثير من كتاب هذا الجيل؛ فمن الممكن أن تتغير الأساليب والأشكال والقوالب بشكل سريع أما الذائقة فربما تحتاج إلى زمن طويل لتقبل هذا التغيير".
ويرى يعقوب أن خصوصية الرواية المصرية وأهميتها بالأساس تكمنان في ريادتها وسبقها، ومن ثم فقد كان تأثيرها كبيرا وطاغيا في الكثير من التجارب الروائية في الوطن العربي، فما من كاتب روائي عربي إلا وفي كتاباته وأسلوبه وطريقة معالجته مسحة وآثار من الطريقة المصرية، كما أن تاريخ الرواية المصرية حافل بأسماء كبيرة يصعب مقارنتها -كما وكيفا- بغيرها من الأسماء، ومازال النهر يتدفق والمبدعون المصريون يواصلون مسيرتهم الإبداعية. غير أن نظرة فاحصة للإبداع الروائي العربي المعاصر تضعه بلا شك على قدم المساواة والمنافسة مع نظيره في مصر، حيث يشهد المجتمع العربي نهضة كبيرة وغير مسبوقة في الكتابة الروائية بشكل خاص، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال استعراض أسماء الروائيين في أي بلد عربي والجوائز المهمة التي يحصلون عليها، وهذا كله يصب في مصلحة الرواية والفن الروائي بلا شك.
الإبداع والنقد
حول سطوة المشهد الروائي على المشهد الإبداعي العربي وتأثير ذلك على الشعر مع ملاحظة أن الكثير من الشعراء تحولوا إلى كتابة الرواية، يقول يعقوب “الشعر الحقيقي عبر تاريخه هو فن نخبوي بامتياز لا يكتبه سوى أصحاب الموهبة الصادقة، لذلك فهو فن عزيز لا يتأتى لكل كاتب مهما أوتي من قدرة على التعبير والإنشاء، والقارئ المدرب -فضلا عن الناقد- يستطيع أن يميز بين تجربة شعرية حقيقية وأخرى زائفة وباهتة".
ويتابع "على العكس من الرواية -وإن كانت الموهبة أيضا من مقتضياتها- فإنها تعتمد على الجهد والتنظيم والدراسة والخبرة والإلمام بطرق الكتابة الروائية، وهناك تصريحات للأستاذ نجيب محفوظ تؤكد على هذا المعنى؛ حيث تُشبِه الرواية عنده البحث العلمي الذي يحتاج إلى مراجع وخبرات وتنظيم وتبويب، وهذا أمر بإمكان الشخص الموهوب والدارس أن يقوم به، أما الشعر فالأمر فيه يختلف لأنه يحتاج إلى موهبة وتجربة وصدق وحالة مزاجية ونفسية خاصة. وعلى الرغم من ذلك أعتقد أن مكانة الشعر راسخة في الوجدان والثقافة العربييْن ويصعب تجاوزها أو مقارنتها بجنس أدبي آخر".
ويلفت إلى أن الرواية فن حديث النشأة نسبيا بالقياس إلى سائر الأجناس الأدبية الأخرى كالشعر والمسرح، ومع ذلك فقد خطت خطوات هائلة وانتزعت لنفسها مكانة كبيرة لا تقل إن لم تزد في بعض الأحيان عن مكانة تلك الأجناس، وبالطبع لا ينبغي أن نضع تاريخ الرواية كله في سلة واحدة إذا أردنا أن نصف المشهد وصفا دقيقا؛ فقد مرت الرواية خلال هذا العمر القصير نسبيا بتطورات أو قل بقفزات كبيرة؛ بدأت الرواية مع جيل هيكل والسحار وطاهر لاشين وكان يغلب عليها التقليد والمحاكاة، وقد خطا نجيب محفوظ ويحيى حقي وتوفيق الحكيم بالرواية خطوات أوسع، فاشتبكت الرواية والتحمت بقضايا المجتمع وتطورت الأساليب وتنوعت المعالجات الفنية بصورة كبيرة، وهو ما منح الرواية مكانتها واستقلالها ورسوخها.
ويؤكد يعقوب أنه بمرور الوقت زاد عدد كتاب الرواية بصورة كبيرة، وتعددت طرق الكتابة وأساليب الكتاب، وأصبحت الرواية قادرة على تجسيد أعقد المشكلات وأدقها وهو ما جعلها أكثر التحاما بالواقع وبالناس؛ قضايا المرأة والحريات والاستقلال والسياسة وغير ذلك من القضايا المسكوت عنها، لكن يلاحظ أن الكثير من المقتحمين للكتابة الروائية لا يفرقون بين “المتن الحكائي” و”المبنى الحكائي”، فأصبحت الروايات عند بعض المتعجلين نقلا حرفيا عن الواقع واستنساخا له، صحيح أن الرواية تستقي موضوعاتها من الواقع لكنها لا تضاهيه ولا تنقل عنه نقلا حرفيا فجا، وهذا ما يجب أن يعيه كتاب الرواية، فالروايات التي تستنسخ أحداث الواقع وتحاكيه مجرد صور باهتة لا ترقى إلى مرتبة الفن والإبداع.
ويشدد يعقوب على صعوبة تقييم الحركة النقدية ومدى مواكبتها ومتابعتها للمشهد الإبداعي في هذه الأسطر القليلة، فالأمر يحتاج إلى معالجة أعمق وأطول بلا شك، لكن يمكن القول إجمالا: إن لدينا عددا غير قليل من النقاد المتميزين الذين يعرفون أصول النقد ويملكون أدواته ويطبقونها بشكل دقيق في كتاباتهم في الوطن العربي، كما أن لدينا كتابات نقدية نظرية وتطبيقية كثيرة تشهد بجهود حقيقية تُبذَل في هذا المجال، على أن الناقد يجب أن يبتعد تماما عن المجاملة والآراء الشخصية والتسطيح، وأن يقدم قراءة علمية وموضوعية منضبطة ورصينة، وأن يدرك أن قراءته هي واحدة من قراءات أخرى كثيرة، وأن يراعي خصوصية البيئة والنصوص المدروسة.
ويختم يعقوب بقوله إن "جمال الإبداع وقوته وسحره يكمن في قدرته على تجاوز هذا الواقع بكل ما فيه من قبح وافتقاد للمنطق في الكثير من الأحيان، وبما يملكه الأدباء والمبدعون من قدرة فذة على إدهاشنا بما يبثونه فينا من حلم ورغبة في حياة تليق بالبشر، وليس من الصعب أن ترصد هذا الحراك وتثمنه - وإن كان بطيئا - في ما تنتجه دور النشر كل عام رغم الظروف التي نعرفها جميعا، وفي الزحام الشديد والحرص على حضور معارض الكتب، وفي الحضور الكثيف للشباب، أتصور أن الحركة الأدبية في مصر والعالم العربي بخير ولكنها بحاجة إلى رعاية حقيقية من المؤسسات والدول".