وجه الشبه بين الطبيعة والتكنولوجيا مصدر إلهام للأبحاث العلمية

تستحوذ المحاكاة الحيوية للطبيعة على اهتمام العلماء، وتساعدهم على استخلاص دروس مهمة في الإتقان والإبداع، لتساهم بشكل كبير في تعزيز مستوى الابتكار التكنولوجي والتقدم العلمي. ووجد العلماء والمهندسون في عالم الحيوان والنبات الملايين من النماذج للابتكار، وحلولا للمشكلات التي تبدو مستعصية.
فتن الإنسان منذ القدم بجمال الطبيعة الخلاب، فكانت مصدر إلهام رئيسي للفنانين والشعراء، ولعبت دورا إيجابيا في إثراء قدراتهم الفنية والإبداعية.
واحتك العلماء بالطبيعة التي يعتبرونها نوعا من أنواع التكنولوجيا الغامضة، لدراسة ظواهرها وكشف غموضها وأسرارها والتعلم منها، فتبين لهم أنها تلقنهم دروسا لا متناهية في الهندسة والإتقان والإبداع.
وتحتل مسألة تقليد الطبيعة أو المحاكاة الحيوية، مرتبة متقدمة لدى العلماء والخبراء، نظرا للدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه لتعزيز مستوى الابتكار التكنولوجي والتقدم العلمي.
ويوفر عالم الحيوان والنبات للعلماء والمهندسين الملايين من النماذج للابتكار، وحلولا للمشكلات التي تبدو مستعصية.
ويعد الماء من أبرز التحديات، فهو مصدر للحياة والعنصر الأكثر أهمية للبقاء، والوصول إليه أمر جوهري لأي حضارة مستدامة. ويمكن للتكنولوجيا المستمدة من خنفساء في واحدة من أكثر البيئات قسوة على الأرض أن تساعد في بدء الجيل القادم من حصاد المياه النظيفة.
العلماء يسعون إلى اقتحام وحدة التخزين الأكثر فاعلية في الطبيعة وهي الحمض النووي، استجابة للتحديات
وتعيش تلك الخنفساء (ستنوكارا) في صحراء ناميب القاحلة بناميبيا، ويتيح لها نمط من العقد على طول ظهرها بسحب الرطوبة من الضباب وتكثيفها إلى قطرات من الماء، تنزل عبر أخاديد باتجاه فمها.
واستنادا إلى ذلك، طور علماء الكيمياء أسطحا بخصائص مشابهة قادرة على استخلاص المياه من الهواء.
وتلعب المحاكاة الحيوية أيضا دورا مهما في تطوير تكنولوجيا وسائل النقل. وعلى سبيل المثال، يتميز جلد سمك القرش بخصائص مجهرية تساهم بشكل فعال في سرعة الحيوان وسهولة حركته، وتحول دون التصاق الكائنات الدقيقة والطحالب به. وتوصل العلماء إلى وسيلة لنسخ تلك الخصائص النانوية في بيئة صناعية.
واستخدمت التقنية لصنع ملابس للسباحة، وطلاء للسفن والمراكب الشراعية، والغواصات والطائرات، وقللت إمكاناتها الديناميكية الجيدة من الاحتكاك ووفرت الطاقة.
واستلهم المصممون حافة أجنحة الطائرات من الطيور الكاسرة، بهدف التحليق بسرعة عالية واستهلاك طاقة أقل، وأثبتت التقنية فعاليتها ووفرت نسبة 10 في المئة من استهلاك الطائرة للكيروسين.
ولمواجهة هاجس الضجيج الضخم الذي تنتجه قطارات شينكانسن السريعة في اليابان (300 كيلومتر في الساعة) أثناء الخروج من الأنفاق، والذي أقلق السكان المحليين، استمد المهندسون اليابانيون الإلهام من طائر الرفراف وهو طائر يتغذى على الأسماك، ولضمان غذائه يدخل منقاره في الماء بسرعة فائقة دون إحداث ضوضاء.
واقتداء بذلك، تم تعديل الجزء الأمامي للقطار ليشبه منقار ذلك الطائر الصغير، وكانت النتائج مبهرة، فقد زادت سرعة القطار بنسبة 10 في المئة، مقابل استهلاك طاقة كهربائية أقل بنسبة 15 في المئة، وقلت نسبة الضجيج بشكل كبير.
وينطوي عالم الطبيعة على حلول مثالية لتطوير صناعة تكنولوجيا المعلومات التي تعاني من معضلة تخزين الكم الهائل للبيانات التي تولدها الشبكات العالمية، وذلك نتيجة للزيادة المتنامية لعدد المستخدمين والأجهزة الرقمية المتصلة.
ومن المتوقع وصول حجم البيانات العالمية إلى 163 زيتا بايت بحلول 2025، وهو ما سيجعل الطاقة والتكلفة البيئية من التحديات الأساسية خلال السنوات العشر المقبلة. وذلك يتطلب حلولا جذرية لسد الطلب دون مفاقمة الكلفة والتغير المناخي.
واستجابة لتلك التحديات الأيكولوجية والاقتصادية، تتجه أنظار العلماء نحو اقتحام وحدة التخزين الأكثر فاعلية في الطبيعة وهي الحمض النووي.
وأثبتت التجارب أنه بالإمكان تخزين 215 بيتا بايت في كل غرام من الحمض النووي، ويمكن للبيانات المخزنة أن تدوم الآلاف من السنين.
قد يبدو ذلك مثيرا للإعجاب، غير أن الكلفة الباهظة تمثل حاليا مشكلة حقيقية قد تحد من اعتماد هذه التقنية بشكل أساسي في المستقبل.
ولكن الخبراء يؤكدون أن الزيادة في الاستثمار في هذا المجال ستقود حتما إلى التطورات اللازمة من أجل خفض التكاليف المرتفعة.
وبالتوازي مع البحوث الرامية لتعزيز كفاءة الذاكرة العالمية، يسعى العلماء لتطوير أساليب معالجة واستيعاب الكميات الكبيرة من البيانات عبر محاكاة العقل البشري.
وهناك تكنولوجيا ناشئة مثيرة تركز في الأساس على قدرة الكمبيوتر على التعلم بمفرده عن طريق تحليل البيانات وتتبع الأنماط، وتقلد طريقة التعلم للدماغ، دون الحاجة إلى برمجة مسبقة، وهو مجال بحث جديد يعرف باسم “التعلم العميق”. واستخدم في عدة تطبيقات منها التعرف على الكلام ومعالجة اللغة وتشخيص الأمراض.
وتستثمر شركات التكنولوجيا بكثافة في هذا المجال بهدف تصنيع أجهزة إلكترونية ذكية يمكنها القيام بالعديد من الأنشطة البشرية ومن بينها المشاهدة والاستماع والتفكير، وعلى سبيل المثال هناك أجهزة قادرة على مسح الملايين من الصور وإدراك محتواها.
ولجعل أجهزة الكمبيوتر أكثر كفاءة من حيث استهلاك الطاقة تسعى الشركات، مثل شركة “أي.بي.أم”، إلى جعل مصدر التغذية والتبريد سوائل. وهو إلهام من الطبيعة، وتقليد لعمل وظائف الدم في الدماغ البشري الذي يضم قوة حاسوبية ضخمة مقابل استخدام 20 وات فقط من الطاقة، وكفاءته تفوق حوالي عشرة آلاف مرة أقوى كمبيوتر متوفر حاليا.
وكشفت الشركة في السنوات الأخيرة عن جهاز كمبيوتر يغذيه “الدم الإلكتروني”، وتعد التقنية نموذجا للملامح التي قد تعمم على أجهزة المستقبل، والقائمة على أساس بيولوجي صناعي.
ولضمان مصدر طاقة أكثر استدامة وصديقا للبيئة، سلك العلماء طريق محاكاة الكيفية التي تحول فيها النباتات أشعة الشمس، حيويا، إلى طاقة للاستهلاك.
ووفقا للخبراء تنتج النباتات كل سنة حوالي 150 مليار طن من الكتلة الحيوية الغنية بالطاقة عن طريق عملية التمثيل الضوئي، وهذا الرقم يوضح سبب الاهتمام المتزايد بهذه العملية البيولوجية من قبل الباحثين.
وتقوم النباتات بتحويل غاز ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الجوي إلى مواد عضوية غنية بالطاقة، وتلك العملية تعتمد على طاقة الشمس والمياه، وهي عملية بيولوجية معقدة وتشتمل على عدة جزيئات بما في ذلك الإنزيمات.
ويبدو أن فريقا من شركة “سيمنز كوربوريت تكنولوجي” يخطو بخطى ثابتة نحو تجسيد تلك العملية صناعيا. وطور مهندسو الشركة نموذجا مصغرا مشابها لما يحدث في قلب الخلية النباتية، واعتمادا على الظروف الأولية يمكن إنتاج الإيثيلين الذي يستخدم في الصناعة الكيميائية لإنتاج البلاستيك، أو أول أكسيد الكربون الذي يمكن استخدامه لإنتاج وقود الإيثانول للمحركات الميكانيكية.
وتمثل الطبيعة إلهاما لا حدود له للتصميم المستدام، وهي عبارة عن مختبر ضخم يعمل منذ ما يقارب أربع مليارات سنة لتطوير العمليات والتصميمات التي تكيفت بشكل جيد على مدى الزمن الجيولوجي وما زالت تستمر في التحسن، وبتكاليف طاقة منخفضة ومن دون نفايات وكل شيء يقع تدويره.
وبمقدورنا عبر محاكاة تصميمات الطبيعة، جني ثمار الفوائد الجمة التي تضمها ودعم مشاريع المحافظة على البيئة وإدامتها.