"وجدتها!"

سكان مدينة “سيراكوزا” اليونانية استفاقوا صباحًا على مشهد رجل مجرد من الملابس، يجري في شوارع المدينة صارخًا: “وجدتها!” أتحدث عن قصة جرت أحداثها في القرن الثالث قبل الميلاد؛ الرجل هو العالم اليوناني الشهير أرخميدس. كان أرخميدس يحاول إيجاد حل لمعرفة وزن تاج الملك هيرون الثاني، للتأكد مما إذا كان مصنوعًا بالكامل من الذهب أم مخلوطًا بمعادن أخرى، دون تدميره.
عندما دخل إلى حمام عام، لاحظ أثناء غمر جسمه في الماء أن مستوى الماء يرتفع، وفجأة أدرك أن حجم الماء المُزاح يعادل حجم جسمه المغمور. عندها، استوعب أرخميدس أنه يمكنه استخدام هذه الظاهرة لقياس حجم تاج الملك، وبالتالي تحديد كثافته ومقارنتها بكثافة الذهب.
هكذا اكتشف العالم أرخميدس ما تعلمناه بعد 2300 عام في المدارس عن قانون دافعة أرخميدس، دون أن ندرك أهميته. هذا القانون ساعد في ما بعد على تصميم الغواصات، واستخدم في تطوير الأجهزة الطبية لقياس كثافة العظام.
صدفة مماثلة حدثت مع عالم آخر هو إسحاق نيوتن، الذي اكتشف قانون الجاذبية عندما سقطت تفاحة على رأسه بينما كان مستلقيًا تحت شجرة.
عرضت مثالين علميين لأبين مدى قوة تأثير الصدفة على حياتنا، وأنتقل الآن إلى عالم السياسة، وأكتفي أيضًا بمثالين كان لهما عظيم الأثر على تشكيل الأحداث في القرن العشرين.
المثل الأول: شاب توجه عام 1907 إلى أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا للالتحاق بها، فتم رفض طلبه. أعاد المحاولة عام 1908، ليتم رفضه ثانية، بسبب ضعف مهاراته خاصة في رسم الأشخاص.
الرفض كان له تأثير عميق على حياة الشاب. تخلى عن حلمه بأن يصبح فنانًا وانتقل إلى مسار مختلف تمامًا.
بالتأكيد علمتم من هو الشخص الذي أتحدث عنه، إنه أدولف هتلر، الذي عاش بعد رفض طلبه حياة مضطربة، وعانى الفقر، ثم انخرط في الجيش خلال الحرب العالمية الأولى، وبدأ في تطوير أفكاره السياسية المتطرفة التي قادته لاحقًا إلى قيادة الحزب النازي وصعوده إلى السلطة.
لو قُبل هتلر في كلية الفنون، ربما كان قد اتخذ مسارًا مختلفًا تمامًا، بعيدًا عن السياسة والحرب. والأهم تجنّب العالم الحرب العالمية الثانية.
المثل الثاني: سقوط جدار برلين عام 1989، الذي مهد لتفكك الاتحاد السوفييتي. خلال مؤتمر صحفي، ذكر مسؤول ألماني شرقي تصريحًا خاطئًا حول السماح بحرية الحركة عبر الجدار. بسبب سوء تفسير هذا الإعلان، تجمع الناس عند نقاط التفتيش، لينتهي الأمر بإسقاط الجدار. هذه اللحظة، غير المخطط لها، أصبحت رمزًا لنهاية الحرب الباردة.
الصدفة قد تفتح أبوابًا لا يمكن التنبؤ بها أو التخطيط لها مسبقًا، لكنها تحتاج إلى أشخاص واعين يستغلونها بطريقة فعالة لتحويلها إلى نقاط تغيير.
رغم أن الصدفة قد تبدو عشوائية وغير مخطط لها، إلا أنها تحتاج إلى استجابة واعية من الأفراد والجماعات لتحويلها إلى فرصة حقيقية. هنا، يأتي دور الأشخاص في استغلال اللحظات غير المتوقعة لصنع الفرق.
الحياة مزيج رائع بين الصدفة التي تأتي فجأة، والشخص الذي يستجيب لها بتصرف ذكي، مما يجعل التاريخ يظهر كأنه لعبة لا يمكن توقعها بالكامل، إلا في بلدي، المحكوم بالقضاء والقدر، الصدف تحدث دائمًا، لكن دون أن تجد من يخرج إلى الشارع صارخًا: “وجدتها!”