وثيقة سياسية تونسية تئد حكومة وتلد أخرى

تتجه أنظار السياسيين والرأي العام التونسي إلى اجتماع الأطراف الموقعة على وثيقة قرطاج المتوقع عقده غدا الجمعة والذي سيشرف عليه الرئيس الباجي قائد السبسي، حيث سيكون العنوان الأساسي والوحيد للاجتماع البتّ في مصير رئيس الحكومة يوسف الشاهد.
ولئن عبرت حركة نداء تونس والمنظمة الشغيلة (الاتحاد العام التونسي للشغل) والاتحاد الوطني الحرّ واتحاد المرأة عن موقفها الداعم لتغيير الشاهد وحكومته، فإنّ حركة النهضة إلى جانب أطراف اقتصادية وسياسية أخرى اختارت التمهّل والتريث في إعلان موقفها إلى حين استكناه موقف رئاسة الجمهورية من قضية تغيير الحكومة.
قمّة الجمعة باتت أقرب ما يكون إلى ليلة بثّ ونفخ “الدخان الأبيض” من فوهة كنائس الفاتيكان عند اختيار كبير الكهنة، ولأن تونس اليوم محكومة بمنطق الشرعية التوافقية وليس الشرعية الانتخابية أو الدستورية، فإنّ وثيقة قرطاج واجتماعاتها باتت مؤسسة فوق دستورية، وسلطة فوق السلطات، تتحكم لا فقط في مسار الحكومات، بل في مصير الحكم برمته.
على هذا المنوال، تتشابك الصلاحيات والسلطات والملفّات، فالفاعل الاجتماعي المدني يصبح مقررا للمسائل السياسية، والفاعل السياسي يصير متأثرا تلازميا بمسار المفاوضات الاجتماعية في زيادة الأجور والمنح والعطل وبزخم جولات التشاور بين الوزارات والفاعل النقابي، وعلى هذا الأساس أيضا تصبح وثيقة قرطاج مطبخ القرارات والاختيارات في الحكومة والحكم.
في مثل هذا المسار تضيع هيبة الدولة وقيمة الدستور وجدوى العملية الانتخابية، فأنى لحكومة تنال شرعيتها من البرلمان أن تسقط عبر وثيقة قرطاج، وأنّى لرئيس حكومة جاء بمقتضى الغالبية الانتخابية أن يذهب بمنطق الغالبية التوافقية.
غادر رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد رئاسة الوزراء من بوابة وثيقة قرطاج 1 التي وضعته هو وحكومته محلّ تساؤل حيال النتائج والتطلعات، ومن المقرر، إن لم تحصل مفاجأة في الدقائق الأخيرة، أن يغادر يوسف الشاهد القصبة عبر نافذة وثيقة قرطاج 2، التي وضعته أيضا هو وفريقه الوزاري ضمن سياق التشكيك والتنسيب في القدرة على تلبية بنود الوثيقة في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعيّة.
المفارقة أنّه كلمّا اجترحت الغالبية التوافقية وثيقة سياسيّة، إلا وكانت على حساب الحكومة القائمة وأدوارها، وكأنّ البيان السياسي في تونس الثورة لا يستجلي جوهره إلا بتغيير الفاعل السياسي واستبدال عناوين حكوماته وأدوارها.
جاءت وثيقة المرحلة الانتقالية والتي فرضت على كافة أعضاء الحكومة عدم الترشح للانتخابات التأسيسية بحكومة الباجي قائد السبسي في أبريل 2011، قبل أن تأتي وثيقة التوافق السياسي للرباعي الراعي للحوار، بحكومة المهدي جمعة في موفى 2013، وكما استجلب بروتوكول قرطاج 1 حكومة السيد يوسف الشاهد في أوت 2016، فمن المقرر أن تنبثق عن وثيقة قرطاج 2 حكومة جديدة بأسماء قديمة محيّنة.
وفي غالبية الحالات، كان استبدال الوجوه والحكومات مكلّفا وفق معايير الزمان الاستراتيجي والاقتصادي والاجتماعي، وباهظا في مستوى المشاريع التي يعلنها الوزراء المؤقتون، وجدّ ضعيف في أبعاد إنجاز وتطبيق بنود الوثائق المستنسخة، وغير مطمئن في سياق تقديم صورة الدولة الواثقة من رؤاها المستقبلية ومشاريعها المنظورة، وحوّل الدائم الشرعي إلى مؤقّت وصيّر الانتقالي والمرحليّ إلى مستمر.
وأيا كان الموقف من حكومة الشاهد، فإنّ المجازفة بتغييرها في ظرف سياسي حساس بين ثلاثة استحقاقات انتخابية (بلدية العام 2018، وتشريعية ورئاسية العام 2019)، وفي سياق اقتصادي حرج متذبذب وشديد التأثر بأي صدمة سياسية، وفي مجال اجتماعي يبحث عن الحدّ الأدنى من الديمومة في عمل الحكومات لتحقيق الحدّ المعتبر من التنمية، قد تكون مجانبة للكثير من التعقل والرصانة التي تحتاجها تونس اليوم.
بإمكان المتوجسين من انخراط يوسف الشاهد في حملة انتخابية مبكرة عبر عمله الحكومي أن يعمدوا إلى طبع هذه الحكومة بطابع عدم الترشح في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، ولكن أن تقع التضحية بحكومة قائمة، لها ما لها وعليها ما عليها، في سبيل براغماتية سياسية انتخابية صرفة، فهو عين المقامرة السياسية.
إشكالية المشهد التونسي لا تتمثل في الوثائق السياسية، ذلك أنّ معظم الفاعلين المحليين يدركون الأولويات والأهداف والكامنة أساسا في التنمية والشغل للشباب والعدالة الاجتماعية والجبائية ومحاربة الفساد المستشري ومكافحة التهريب والإرهاب، بل إن الإشكالية الأساسية في الآليات والأدوات القادرة على تحقيق هذه التطلعات، وهنا مربط الفرس، وهنا الاختلاف بين الفاعل النقابي والفاعل السياسي الحاكم والمعارض والجمعيات المدنية وجزء من الإعلام. وعلى أساس هذا التباين تستعصي عملية بناء العقد الاجتماعي التونسي وتأصيل الهدنة الاجتماعية وتأثيث حوكمة مالية جديدة.
قيمة كل وثيقة سياسية في بعدها الوفاقي العام، وفي قدرتها على التأسيس لـ”كتلة تاريخية صمّاء” في ظرف تاريخي استثنائي، أما أن يكون هدفها وأد حكومة وولادة أخرى، وأن تكون وظيفتها تأمين محاولات التفافية على الحكومات وعلى الشرعيات التشريعية والتنفيذية الحقيقيّة، فعندها تجب إعادة النظر في مباني الوثائق وفي معاني التوافق.