وادي السيليكون يتحكم في أعصابنا

ستعاني صناعة التكنولوجيا العصبية من مشاكل مخيفة أخطر بكثير مما يلحق بنا من تداعيات منصات التواصل وأنظمة الذكاء الاصطناعي وأجهزة المراقبة، إذا فشلت في أداء واجبها.
الخميس 2021/12/30
سبر أغوار الدماغ تحول إلى نموذج أعمال

لم تتبادر إلى ذهني الصفقة مع الشيطان التي تحدث عنها المخرج جيف أورلوفسكي في فيلمه المثير The Social Dilemma “معضلة السوشيال ميديا” وأنا أقدم على فحوصات طبية روتينية متعلقة بالأعصاب.

كان أورلوفسكي قد استخدم هذا المصطلح المثير بينما يحذرنا بثقة من استمرارية الانتقال بلا هوادة إلى تكنولوجيا تتحكم فينا.

ولم أكن أتوقع أنني ذهبت بنفسي إلى تلك التكنولوجيا وأنا أجلس أمام الطبيب! الطب يتطور بشكل أسرع مما نعتقد ويرتبط بطموحات الشركات التكنولوجية الكبرى، يتعاون معها بطريقة متواطئة في التكنولوجيا العصبية، إلى درجة أنه يمكن أن نتوقع في المستقبل القريب أن أعصابنا ستدار من وادي السيليكون، تماما مثلما تدار اليوم أهواؤنا وأمزجتنا وخصوصياتنا عبر الشركات التكنولوجية الكبرى ومنصات التواصل.

كذلك قررت أن ألقي بنفسي في محرقة المعلومات عن التكنولوجيا العصبية، على الأقل كي أعرف عن ماذا سيحدثني الأطباء ولأكون مستعدا لأي مفاجآت يتحدثون عنها!

إلى الآن، كانت أكثر استخدامات التكنولوجيا العصبية حميدة وهي مغطاة بشكل كبير بالتشريعات التنظيمية الطبية. لكن فكرة زرع أقطاب كهربائية في الدماغ بحد ذاتها تبدو مرعبة، وفق الكاتب جون ثورن هيل. ومع ذلك ليس فقط مهووسو الخيال العلمي البائس وحدهم من يمكنهم تخيل كيف يمكن لهذه التكنولوجيا أن تخدم غايات أكثر شرا. لذلك ستعاني صناعة التكنولوجيا العصبية من مشاكل مخيفة أخطر بكثير مما يلحق بنا من تداعيات منصات التواصل وأنظمة الذكاء الاصطناعي وأجهزة المراقبة، إذا فشلت في أداء واجبها.

ذلك ما نبه إليه تريستان هاريس المؤسس المشارك لمركز التكنولوجيا الإنسانية، إذ أشار إلى أنه قبل أن تتغلب التكنولوجيا على نقاط القوة البشرية فإنها ستطغى على نقاط الضعف البشرية. وهكذا تتعلم الخوارزميات المتطورة نقاط ضعفنا العاطفية وتستغلها من أجل الربح بطرق خبيثة.

قبل أيام حدثني البروفيسور رعد شاكر، أحد أكبر أطباء الأعصاب في بريطانيا، عن الطبيعة التشريحية والفسيولوجية للدماغ بكونه يحتوي على 87 مليار حجيرة كهربائية تتصل ببعضها البعض بسرعات مذهلة، ولذلك فإن هناك قدرات مذهلة لتقبّل المعضلات وحلّها.

ويؤكد على أن قابليات الدماغ تفوق بمراحل حاجياتنا اليومية والفكرية. فهناك وظائف في الدماغ لا نعرفها، بل ولا نستطيع تصورها، متوقّعا أن تكون اكتشافات الدماغ مبهرة أكثر من اكتشافات المجرات الكونية.

وتلك الطموحات الطبية حيال سبر أغوار الدماغ تتحول إلى نموذج أعمال بالنسبة إلى الشركات كما هو الحال في العديد من المجالات الأخرى للتكنولوجيا سريعة التطور، فلم يعد يكفي بالنسبة إلى الشركات التكنولوجية المسيرة للعالم الرقمي فعل المراقبة المستمر والقائم في المنصات المبنية على نموذج مصمم للتحكم في خبراتنا البشرية والتلاعب بها واستخراجها بأي ثمن، لقد توصلت إلى ما هو أكثر خطرا عندما بدأت تربط أقطابها بأدمغتنا وتعيش في أعصابنا.

Thumbnail

ولمجرد أن نعرف كمية الأموال التي يتم ضخها في قطاع تكنولوجيا الأعصاب، حتما سنشعر بضيق كبير في التنفس هذه المرة! وسنشارك المشرعين الأخلاقيين والمنظمات التي تدافع عن الحقوق العصبيةِ المخاوفَ التي تؤخذ على محمل الجد نظرا إلى سرعة تطور هذه التكنولوجيا. تكفي الإشارة هنا إلى استثمار أكثر من 33.2 مليار دولار فيما يقارب 1200 شركة في مجال التكنولوجيا العصبية خلال العقد الماضي، وفق تقرير لصحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية. وهو واقع بدأت معه دول تكرس الحقوق العصبية في دساتيرها، كما فعلت تشيلي مؤخرا.

سبق وأن كتب رافائيل يوستي، وهو أحد علماء الأعصاب الرائدين في العالم، “ما يمكن فعله بالفئران اليوم يمكن فعله بالبشر غدا”.

يدير يوستي مؤسسة ضغط من أجل تعريف دولي للحقوق العصبية. ينبغي أن تتضمن هذه الحقوق مبادئ عدم التدخل في الخصوصية العقلية والهوية الشخصية والإرادة الحرة، والوصول العادل إلى التعزيز العقلي والحماية من التحيز.

ولدت تلك الحقوق بعد أن أسقَطَنا البريق اللامع الذي وفره العصر الرقمي بإغراءات قل نظيرها في التاريخ الإنساني، وفرّطنا في كل ما نملك في حسابات نملكها اسميا لكنها تدار بطريقة أورويلية. وما ينتظرنا هو أن نمنح ما تبقى من أعصابنا إلى تلك التكنولوجيا التي يقودها النرجسيون الأثرياء، أولئك الذين يضعون الحوافز الاقتصادية فوق أي اعتبار متعلق بإنسانية المستخدمين واستقرار المجتمعات، أو بتعبير أنيل داش الرئيس التنفيذي لشركة “غليتش”، وهو يتحدث عما ينتظرنا من تكنولوجيا البصائر الذكية، “إنها أكبر من أن تفشل، والخطر أن جميع المعايير الثقافية قد صاغها كبار الانتهازيين من الحرس القديم، وأولويتهم القصوى تجنب المساءلة التي تأتي متأخرة إلى الجيل الأخير من المنصات حالياً”.

ذلك ما يدفع فلاسفة ومحامين إلى التساؤل بشأن المدى المسموح به للتدخل في أدمغة الأشخاص، وعما إذا كان من المنطقي اعتماد تشريع محدد للدفاع عن الحقوق العصبية؟

يطالب هيل الذي يعد من بين أهم كتاب صحيفة فاينانشيال تايمز في طرق الأفكار الملهمة وإطلاق الأسئلة المثيرة، بربط الأخلاقيات بالتصميم الأولي للأجهزة التي تتعامل مع الأعصاب البشرية، بدلا من إضافتها فيما بعد كفكرة لاحقة. ذلك لأنه مثل الكثيرين غيره من المهتمين بالتكنولوجيا العصبية، يقر بأنها ستستخدم بلا شك للأغراض العسكرية والمراقبة والاستجواب، مثل كل ما قدمه العصر الرقمي من خدمة جليلة للبشرية تمت إساءة استخدامها أيضا.

في النهاية ليست هناك حاجة إلى “الأخ الأكبر” والاستعادة المستمرة لجورج أورويل لحرمان الناس من استقلاليتهم ونضجهم وتاريخهم. بل سيحب الناس اضطهاد أنفسهم، وسيهيمون ولعا بالتقنيات التي تبطل قدرتهم على التفكير. ذلك ما ينتظرنا في التكنولوجيا العصبية.

16