هيّا بنا إلى "الحفصية"

اذكر اسم “الحفصية” في تونس وسيتبادر إلى الذهن فورا سوق الملابس المستعملة (فريب) كما يطلق عليه في تونس.. وهذا مؤلم، خاصة إذا علمنا أن الحفصية هي “جوهرة تونس” المنسية، رغم ما تحتضنه من قيم مادية ومعنوية كبيرة.
أول مرة زرت فيها “الحفصية” كانت بهدف الاطلاع على هذا السوق الذي تنتشر فيه عشرات محال بيع الملابس المستعملة، ويوفر تجربة تسوق فريدة بما يعرضه من تنوع في الملابس لجميع الطبقات الاجتماعية، ويشتهر بجودة المعروض من ملابس تحمل أسماء دور أزياء عالمية، بأسعار يمكن وصفها بالمناسبة.
الزيارة كانت منذ ربع قرن تقريبا، عام 2000 بالتحديد، بعدها تكررت زياراتي للمنطقة وتعددت، ولكن لم تكن أية زيارة منها بهدف التسوق من سوق الفريب، بل لاكتشاف المخزون الثقافي والحضاري والتاريخي لهذه الجوهرة التي يشير اسمها كما توقع الجميع إلى الدولة الحفصية.
آخر زيارة لي كانت في اليوم الأول من أيام عيد الأضحى، بعد أن جذبني خبر قرأته عن لوحة جدارية تعرض بالمنطقة “نفذتها أنامل مهمشين”..
من يستطيع أن يقاوم خبرا مثل هذا دون أن يستطلعه؟
عنوان الجدارية “ألف آجرّة وآجرّة”، ولا تخفى دلالة الاسم الذي يشير إلى رائعة الحكايات الشعبية “ألف ليلة وليلة”.
لا أريد أن أتحدث عن القيمة الفنية لهذا العمل الذي هدف كما يقول المشرفون عليه إلى “إظهار الوجه الخفي والمبدع لحوالي مئة من المعوقين وتاركي المدارس” وشارك في إنجازه أكثر من 550 شخصا من مختلف الاختصاصات، فقد أشبعه النقاد مدحا يستحقه.
ما يهمني هو المكان الذي اختير لعرض الجدارية.. “الحفصية”، في قلب المدينة العتيقة التي صنفتها اليونسكو عام 1979 كموقع محمي.
“الحفصية” التي نتحدث عنها ليست منطقة معزولة، بل هي بمثابة القلب للمدينة العتيقة في تونس، عندما تكون فيها أنت على مقربة من باب سويقة والحلفاوين وباب الخضراء وباب الجديد وباب بنات والقصبة وجامع الزيتونة.. والأهم من ذلك كله، أنت على بعد أمتار فقط من نهج الباشا.
أول زيارة لي إلى نهج الباشا كانت برفقة الصديق الجزائري الكاتب أزراج عمر، حيث قطن فيه لفترة قصيرة، دون أن ندري نحن الاثنين أننا في مكان كان مسرحا لأحداث تاريخية مهمة، ومركزا للحركة الوطنية التونسية، انتصبت فيه مكاتب زعماء من أمثال الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، وفيه ظهر المقهى الثقافي لـ”جماعة تحت السور” الذي أصبح ملتقى لرموز الفن والثقافة.
بعدها تعددت زياراتي للمدينة العتيقة، خاصة باب سويقة.. كنت حريصا على أن أمضي معظم ليالي شهر رمضان في هذا الحي الذي لا ينام.
كانت المدينة العتيقة في تونس حينها تستضيف عشرات المهرجانات الفنية والثقافية سنويا.. كانت ليالي لا تنسى أشبه بليالي ألف ليلة وليلة. إلى أن حلت السنوات العشر العجاف، وكدنا ننسى وجود المدينة العتيقة وننسى “الحفصية” التي لم نعد نتذكر منها سوى سوق الملابس المستعملة.
لذلك نأمل أن يكون مشروع جدارية “ألف آجرّة وآجرّة” الذي نفذه “المهمشون” فاتحة لجذب مشاريع جديدة في حي مليء بالحكايات التي يجب أن تعاد روايتها من جديد، وبـ“مساحات مهجورة” تنتظر من يعيد اكتشافها.