هيف كهرمان عراقية غزت برسومها الصالات العالمية

“كيف أنت عراقي؟” سؤال يشبه سؤالا حائرا آخر هو “ما معنى أن تكون عراقيا؟” عليك وأنت تسعى إلى الإجابة أن تنتقل بسرعة البرق من الرخاء إلى البؤس، من السلام إلى الحرب، من الرضا إلى الغضب، من الواقع إلى الوهم، فتبدو الأحداث كلها كما لو أنها تقع في جزر الواق واق.
هيف كهرمان لم تعش في العراق إلا قليلا غير أنها حملته معها إلى بلاد اللجوء باعتباره رمزا روحيا وحجابا سحريا وخزانة ذكريات عائلية. تستلهمه في رسومها من خلال حكايات نسائها لتوحي بأن هناك مكيدة تقع في كل لحظة. هل العراق وطن أم هفوة؟ تتعثر هيف به. في المخطوطة والصيحة والشاة المذبوحة والأغنية والكابوس والفكرة الضائعة والتيه.
ترسم كهرمان بيد مزوق كتب قديمة، فلا تقف أمامها الحدود بين الأمم الشرقية من العراق إلى اليابان مرورا بفارس وأفغانستان والهند. إنها عراقية بالمعنى الذي سيجعلها على سفر دائم. وفي الوقت نفسه فإن رحيلها بين الأزمنة يجعلها تجمع بين الواسطي الرسام العراقي القديم وبين هنري ماتيس الرسام الفرنسي الحديث.
أولئك النسوة اللواتي ترسمهن لا يقمن في مكان بعينه ولا يعشن في زمان محدد. غير أن ظهورهن لا ينمّ عن عبث تزييني أو يندرج في مجال الغزل. المرأة بالنسبة إلى الرسامة هي ضحية كل ما يقع من حولها بدءا بالمجتمع الذكوري وانتهاء بالحروب. إنها حاملة قضية لا يمكن تجريدها من الألم والعذاب والمقاومة وروح التضحية بالرغم من أنها تظل مخلصة لمبدأ وجودها الجمالي.
لقد جرّبت كهرمان بنفسها ما الذي يعنيه أن تكون المرأة عراقية. سفر هادئ ومنغم إلى الجحيم برفقة الكثير من الإغراءات الجمالية التي تستدعي صورا حلمية مستلهمة من الحكايات التي تحلق بخفة ذاهبة في اتجاه جزر الواق واق. تلك جزر اخترعتها مخيلة الرحالة العربي ابن بطوطة في رحلته الشهيرة غير أن كهرمان تمشي في أثر ابن بطوطة لترى بعينيه الخياليتين ما كان قد رآه وهو يمزج بين الواقع والخيال. أكان عليها أن تذهب إلى تلك الجزر الخيالية لتكتشف أن وطنها المفقود لا يزال حيا هناك؟
ذكرياتها التي تسيل
ولدت كهرمان ذات الأصول الكردية في بغداد العام 1981. في طفولتها التحقت بمدرسة الموسيقى والباليه في العراق. ثم هاجرت إلى السويد برفقة عائلتها بعد حرب العام 1990. لوقت قصير درست الموسيقى والباليه، غير أنها توقفت عن ذلك حين اكتشفت وهي لا تزال صغيرة ولعها بالرسم. أكملت دراستها الجامعية في جامعة أوميو شمال السويد ومن ثم ذهبت إلى فلورنسا لدراسة الرسم والتصميم. وتقيم الآن وتعمل في لوس أنجلس.
في وقت قياسي اكتسبت كهرمان شهرة وضعتها في الصف الأول من فناني اللحظة الراهنة. ذلك لأن أول عروضها الشخصية تعود إلى عام 2010 في لندن ودبي. ثم تتالت معارضها في أهم الصالات الفنية في عدد من الولايات الأميركية. الأمر الذي يكشف عن غزارتها في الإنتاج وتنوع الأفكار التي تستلهم منها حكاياتها.
الحدود بين الأمم الشرقية لا تقف في وجه كهرمان، من العراق إلى اليابان مرورا بفارس وأفغانستان والهند
ونشاط الفنانة في العروض الفردية شجع الملتقيات الفنية العالمية داخل الولايات المتحدة وخارجها على توجيه الدعوة لها واستضافتها وترشيحها لجوائزها.
تقف كهرمان في المسافة التي تفصل ما بين واقعها باعتبارها لاجئة وبين ذكرياتها التي تعود بها إلى وطنها السابق. غير أن تلك المسافة لا تظهر بشكل مباشر لأن الرسامة تتعمّد أن تروي شيئا فيما يقع هدفها في مكان آخر. سيكون النظر وإعادته جاهزين دائما في التعامل مع مشكلات من نوع “الهوية والهجرة والمرأة والضحية والتيه والاستفهام” من خلال سلسلة متلاحقة من الصور التي يوضح بعضها البعض الذي سبقه من غير أن يفقده استقلاله. لقد جربت كهرمان أن تكون موجودة في مكانين. المكان الذي تعيش فيه والمكان الذي قدمت منه.
كان صعبا عليها أن تفصل بين شخصيتيها وهما تتصارعان على الهوية الوطنية فيما كانت تبحث في تفاصيل هويتها كامرأة. تحل اللغة هنا محل الوطن. لغة الأنثى التي تحمل معها الكثير من الأسئلة التي تنطوي على جمال من نوع خاص.
“كنت أرغب في تقليد مفهوم اللحم كوسيلة دفاع” ما الذي يعنيه ذلك الكلام الغامض وسط ركام من الصور التي تُسعد وكأنها قادمة من زمن غير محبط؟ الأمر ليس كذلك. تقول الفنانة “لديّ العديد من الذكريات التي تنطوي على الصوت المرعب لصفارات الإنذار للغارات الجوية. لذلك بدأت البحث في كيفية ترجمة الذاكرة الصوتية إلى كائن. قادني هذا إلى كتاب بعنوان (الاستماع إلى الحرب والصوت والموسيقى والبقاء في زمن الحرب بالعراق) حيث يصف المؤلف مقابلة مع أم تحمي أطفالها من أصوات الحرب العنيفة من خلال الإمساك بهم بإحكام والضغط بذراعيها على آذانهم. كان جسدها بمثابة بيئة مثالية لحماية أطفالها”.
الرسم تعويضاً
ترسم كهرمان نساءها كما لو أنهن طيور مقطعة وهي تصر على الإشارة إلى ما يعانين وسط غربة أحوالهن في أرض الواق واق. تلك الجزر المتخيلة هي عبارة عن مفردة غير مرئية تكتسب المرأة من خلال الوجود عليها طابعا سرمديا. ذلك الكائن الذي يقاوم بغبطة حواسه ما يواجهه من لحظات قهر في رسوم سردية، يقع جوهر لغتها البصرية في ثقافة الشتات التي يلعب الجسد دورا مركزيا فيها.
تعيد المرأة إلى مركز الحكاية الذي أزيحت عنه بسبب العنف التاريخي الذكوري. وهو عنف مركّب. الإرث الاجتماعي من جهة والحروب من جهة أخرى. هل يمكن للرسم أن يشكل نوعا من التعويض؟ لا يكفي أن يرى المرء ما يتذكره بل يجب عليه أن يهاجر بحواسه كلّها. عليه أن يكون الآخر أو بالأحرى. فتجربة هيف كهرمان الفنية هي مرآة حياة مهدمة عاشتها المرأة وهي تكافح من أجل البناء بضنى.
نساؤها ترسمهن كهرمان كما لو أنهن طيور مقطعة، وهي تصر على الإشارة إلى ما يعانين وسط غربة أحوالهن في أرض الواق واق، تلك الجزر المتخيلة وغير المرئية التي تكتسب المرأة من خلال الوجود عليها طابعا سرمديا
“من أجل أن لا تُقتل ستظل تروي الحكايات التي يتصل بعضها بالبعض الآخر” تلك هي حال شهرزاد وهي حال هيف كهرمان وهي ترسم سلاسل من الرسوم التي لا يمكن أن تنتهي.
“أجساد لا لزوم لها” ذلك هو عنوان معرضها الذي أقامته في هونولولو. أعتقد أنها ذهبت بعيدا على مستوى الجغرافيا. ولكن ذلك لا يعني شيئا بالنسبة لمهاجرة. لن تعرض تجاربها على مَن يعرفها. ستراقب الأثر على وجوه مَن لا يعرف عنها شيئا. ربما يشبه الأمر التعرف على غربة نساء تائهات في كتاب.
ترسم كهرمان على ألواح من الكتان نساء تستعير أشكالهن من رسوم تنتمي إلى عصور مختلفة وبالأخص عصر النهضة. إنها معجبة بصور الملكات والأميرات كما رسمهن روبنز ورامبرانت وغويا وفيلاسيكز. غير أنها تجرّدهن من عصرهن حين ترسم أشباههن على خلفية فارغة. فهي لا تنوي سوى إلقاء التحية على نساء ذهبت عصورهن إلى الخفاء.
تعلمها الاستعارة أشياء كثيرة عن الرسم. وهي رسامة متمكنة أكاديميا. غير أن ذلك التعلم لا يقف بينها وبين نفي الصلة بكل ما تنطوي عليه تلك العصور من معان. إنها ابنة عصرها. ابنة غربتها ولجوئها وتشرّدها ونفيها وضياعها اللغوي. فهي تتكلم لغة ليست هي لغتها الأم. ولكن ذلك كله لا يقف بينها وبين الحقيقة. حقيقة الرسم الذي ينطوي على الكآبة والمسرّات.