هواجس ليبية على ضفاف البحيرة

عبر التاريخ بقي الشعب الليبي متعلقا بخصوصياته الحضارية الثابتة ومن بينها سعيه الدائم للمصالحة بين المكونات الجهوية والقبلية في إطار آليات ذاتية لحل الأزمات ديدنها التعايش والاعتدال.
السبت 2021/11/20
مأساة السلاح

يكفي المواطن التونسي أن يتطلع إلى وجوه المواطنين الليبيين الباحثين عن عيادات الأطباء أو الجالسين في غرف الانتظار داخل مصحات تونس وبقية مدنها كي يكتشف حجم الألم والمشقة المفروضين على جيرانه الليبيين نتيجة عشر سنوات من الحرب والدمار غذاها عبث الساسة ورهانهم على السلاح كوسيلة لحسم نزاع لا معنى له.

لست ليبيا وإن كنت أزعم أني أحس بعض ما يحسون به، على الأقل من منطلق القرب والجوار.

في الواقع، لا يحتاج الإنسان اليوم أن يكون ليبيا كي يفهم حجم المأساة التي يعيشها الليبيون في توقهم إلى حياة عادية لا تتناقل أخبارها الصحف ووكالات الأنباء.

أحيانا عندما تكون جالسا على ضفاف بحيرة تونس، غير بعيد عن المصحات الخاصة ومراكز الاستشفاء، تتراءى لك بعض ملامح الوضع الإنساني في القطر المجاور من مجرد سماعك لعبارات باللهجة الليبية ينطقها شاب ومرافقوه، شاب مبتور الساق يحاول أن يسترجع البعض من عافيته، يحاول أن يعيد بناء ذاته واستعادة ملكة المشي برجل اصطناعية جديدة.

يؤلمك مشهد الإعاقة ولكنه يزيد من وعيك بأن التونسيين برغم مخاضهم الذي لا ينتهي محظوظون بغياب لغة السلاح عن صراعاتهم. محظوظون، وإن كانت نخبهم السياسية تشبه كثيرا في انقساماتها وقصر نظرها الطبقة السياسية المتشظية وراء الحدود الجنوبية، إلى حد أن البعض يقول إن التونسيين ليبيون دون سلاح.

◄ من الأكيد أن العرب في حروبهم هم إلى حد كبير ضحايا للتدخلات الدولية والإقليمية التي تجد فائدة في حروبهم أكثر من سلمهم

تتأمل بإعجاب قدرة الشاب الليبي على الارتفاع عن إعاقته وهو يخطو خطوات بطيئة ولكنها ثابتة على طريق إعادة التأهيل. لا تسمع بوضوح ما يقوله لمرافقيه. لكنك لا تحتاج إلى عنونة تحتية للمشهد كي تفهم حجم الإعاقة التي ألحقتها الرصاصة أو العبوة التي أصابته ذات يوم، فغيّرت مجرى حياته وحياة أسرته كاملة.

وتتساءل إن كان صاحب قرار إطلاق العبوة والرصاصة مازال لليوم مصرا على أن الضرر الذي يلحقه بالآخر له ما يبرره، مهما كان الهدف الذي يسعى إليه. سواء تعلق الأمر بكرسي السلطة الذي يغريه أو بطهارة الأيديولوجيا التي يدّعي الانتماء إليها أو بواعز الثورة المستمرة التي يدعي الدفاع عنها.

رغم جلسات الحوار ومؤتمرات المساندة الدولية التي لم تنقطع والوساطات الإقليمية والأممية، لا يزال انتقال ليبيا نحو وضع آمن مستقر غير مضمون تماما. صحيح أن هناك منذ اتفاقات العام الماضي هدوءا أكبر. ولكنه هدوء يبقى مسيّجا بحراب القوات الليبية والأجنبية، بما فيها أسلحة الميليشيات وجحافل المرتزقة القادمين من الشرق والغرب.

كلما تصاعدت الخلافات طفا على السطح التهديد بالعودة إلى الاحتراب الداخلي، وكأنما السلاح الذي فشل في إنهاء الصراع لسنوات يمكن أن يوفر مخرجا ما من مأزق الاختلاف الليبي.

عبر التاريخ، بقي الشعب الليبي متعلقا بخصوصياته الحضارية الثابتة، ومن بينها سعيه الدائم للمصالحة بين المكونات الجهوية والقبلية في إطار آليات ذاتية لحل الأزمات ديدنها التعايش والاعتدال. بقي الليبي يمارس ذكاءه الفطري في التجارة وغيرها من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية التي دأب عليها، إلى حين اختطفت مصيره أنانية السياسيين والحسابات الأجنبية التي تغذيها الأطماع في الثروات النفطية.

بعد أحداث 2011 التي أطاحت بنظام القذافي راود الشعب الليبي حلم الوصول إلى شاطئ السلامة. رأى الكثيرون ضوءا في آخر النفق يمثله الاختيار الانتخابي الحر والنزيه. لكن الحلم بقي محاصرا بتهديدات السلاح والمسلحين الذين يعيدون إنتاج عقود العنف والإكراه السابقة التي لا يراد لها أن تنتهي.

صحيح أن هناك انتخابات مقررة للشهر القادم، ولكن هناك أيضا من يجهز ترسه ومنجنيقه للحرب القادمة إن لم تعجبه نتائج الاقتراع.

عشر سنوات أظهرت أن صوت العقل أخفت من قرقعة السلاح، سواء كان سلاحا منفلتا أو هو بيد الشرعيات المتنافسة. تشترك الأطياف السياسية مع الميليشيات المتدثرة بالدين في وهمها بأن حجة القوة أكثر إقناعا وصدقية من المنطق. بعد كل المعارك التي دارت رحاها وما رافقها من خراب في كامل أنحاء البلاد مازال هناك من يعتقد أن أزيز الرصاص من أجمل الأصوات في الوجود.

يغيب عن هؤلاء أنه عندما تنطلق الرصاصة وتصيب هدفها خطأ أو عن سابق إضمار يضيع كل معنى للبيانات العسكرية ولتصورات الخبراء الاستراتيجيين الغارقة في التعقيد. ويبقى الإنسان – الضحية، قتيلا كان أو مصابا، هو الاعتبار الوحيد الذي يستحق الاهتمام. وتتحول الإصابة إلى معاناة عائلية عندما يضطر المواطن الليبي المصاب إلى المداواة خارج حدود بلاده القريبة والبعيدة. تحمله الأقدار للتنقل عبر المستشفيات والإدارات والسفارات والبحث عن المسؤول المستعد لوضع ختمه السحري على أذون العلاج.

مأساة السلاح ليست فقط ليبية. إنها عربية بامتياز، سواء كانت في سوريا والعراق واليمن ولبنان أو غيرها. يقول منظرو التسويات ومسارات التفاوض السلمي إن معين العنف ينضب عند السياسيين عندما يتجاوز سقف النزاع مستوى الألم القابل للاحتمال. ولكن هذا المعين لم ينضب عربيا رغم  كل شلالات الدم ومئات الآلاف من الضحايا.

◄ رغم جلسات الحوار ومؤتمرات المساندة الدولية التي لم تنقطع والوساطات الإقليمية والأممية، لا يزال انتقال ليبيا نحو وضع آمن مستقر غير مضمون تماما

من الأكيد أن العرب في حروبهم هم إلى حد كبير ضحايا للتدخلات الدولية والإقليمية التي تجد فائدة في حروبهم أكثر من سلمهم.

ولكنهم أيضا ضحايا لهواجسهم ولنخبهم المزيفة التي لم تتخلص تماما من وهم قوة السلاح كسبيل لربح الرهانات. هؤلاء بجشعهم وضيق أفقهم ومعتقداتهم الخاطئة فتحوا الأبواب على مصراعيها لتجار السلاح ويوفرون إلى اليوم الغطاء اللازم للمرتزقة والميليشيات.

تتغذى الصراعات المسلحة في الكثير من الأحيان من جذور ثقافية وعقائدية تغلب الاعتبارات الطائفية والقبلية والجهوية على حق الوطن في السلام وحق الإنسان في الحياة وفي النأي بنفسه عن الرواسب الجماعية القاتلة. سوف تبدأ رحلة الخلاص عندما نعترف بأدران العنف الراسبة في نفسياتنا، ونبدأ في مواجهتها بشجاعة لما نتوقف عن الإشاحة بوجوهنا عن المرآة.

مؤتمرات السلام والوساطات في تكرارها الممل تذكير مؤلم بعجز النخب، ليبية كانت أم عربية، عن رسم استراتيجيات ناجحة من أجل فرض صوت السكينة والبناء وإقناع القوى الفاعلة في مجتمعاتها بأن الهدوء دائما أجمل وأن حياة الفرد وسلامته أهم كثيرا من الحسابات السياسية والطائفية التي هي فقط كفيلة بفتح الأبواب أمام الغرباء.

وقبل أسابيع من انتخابات تلغى كل يوم مرتين وتتأجج فيها الصراعات بلا توقف حول قوانين اللعبة، يبقى المواطن الليبي العادي متطلعا لمشهد يرتّبه العقل والمنطلق وليس الاعتقاد الزائف بأن طلقات الرصاص يمكن أن تؤشر لشيء غير دمار الأوطان والشعوب.

8